إن المدقق في الأدلة التي سيقت للدلالة على (الإجماع)، والذي يُعدّ أحد مصادر التشريع عند الأصوليين، يلاحظ ابتداءً أنها أدلة ظنية، سواء في ثبوتها، أو في دلالتها، أو في ثبوتها ودلالتها معاً، ومن المعلوم أن أصول الشريعة وكلياتها لا تُبنى إلا على دليل قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، وأن الأصل لا يُبنى على ظن.
ولعل أول من نظّر لحجية الإجماع هو الإمام الشافعي كما ينقل عنه الشافعية ويذكرون في ذلك قصة عن رجل سأله عن الدليل على حجية الإجماع فحبس نفسه ثلاثة أيام يقرأ القرآن ثم عثر على آية رآها تصلح دليلاً على الإجماع، وهي قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً)، وتُعد هذه الآية العمود الفقري في الاستدلال على الإجماع.
وعلق الإمام الشوكاني وهو المفسر والأصولي في تفسيره (فتح القدير) على هذه الآية قائلاً:
(وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) ولا حجة في ذلك عندي؛ لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب…).
ويقول أ.عبد الواحد عبد الأحد في رسالته (الإجماع دليل من لا دليل له): [ومع أن أدلة الإجماع ظنية فإنك تجد الفقهاء والأصوليين مختلفين حول مسائل كثيرة عن هذا المصدر الموهوم فهم ليسوا مجمعين على الإجماع. فمثلاً: من هم المجتهدون الذين يُعدّ إجماعهم حجة؟ أي إجماع مَن هو الحجة؟ وهل ينعقد الإجماع بدليل أم أنه حجة بعينه؟ وهل يدخل المبتدعة وأهل الفسق في الإجماع؟.. إلخ من الاختلافات الكثيرة، وهكذا لنصل إلى نتيجة مؤداها أنه لا إجماع على الإجماع. قال الإمام أحمد بن حنبل: (من ادّعى الإجماع فهو كاذب وما يدريه لعل الناس اختلفوا) ] ا.هـ. بتصرف.
وقد عدّ أبو مصعب البدري محقق كتاب (إرشاد الفحول) أن الإجماع ما هو إلا بدعة شنعاء، وأن لا حجة في اختلاف الناس أو اتفاقهم وإنما الحجة في الوحي. انتهى بتصرف.
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في كتابه (نظام الطلاق في الإسلام) في دفاعه عن رأيه التجديدي في الطلاق ص 67- 68:
(والإجماع الصحيح الذي تثبته الأدلة، والذي لا يجوز لأحد خلافه، هو الأمور المعلومة من الدين بالضرورة كلها، وليس شيء غيرها يُسمى إجماعاً، وقد ذكرت رأيي هذا في التعليق على كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) للإمام الحافظ أبي محمد بن حزم (طبعة الخانجي سنة 1346 ج 4 ص 142-144) وقلت هناك: وأما الإجماع الذي يدعيه الأصوليون فلا يُتصور وقوعه أبداً، وما هو إلا خيال، وكثيراً ما ترى الفقهاء إذا حزبهم الأمر وأعوزتهم الحجة؛ ادّعوا الإجماع ونبزوا مخالفه بالكفر، وحاش لله. إنما الإجماع الذي يَكفر مخالفه هو المتواتر المعلوم من الدين بالضرورة).
وللشيخ الألباني في كتابه (آداب الزفاف) ص 238 أثناء دفاعه عن رأيه بتحريم الذهب المحلق للمرأة قول يقارب قول الشيخ شاكر.
وما سبق يرينا هشاشة الإجماع الذي يطرحه الفقهاء والأصوليون لأنه ليس إلا وَهماً، ولا دليل يثبته سوى التخمينات والظنون، وما هو إلا تنظير في الكتب دون أي واقع عملي.
أما الإجماع المقبول أو الصواب -حسب وجهة نظرنا- فهو إجماع مجاله حقل المباح، ولا علاقة له بتحليل أو تحريم، فمن المعروف أن المباح مطلق، ولكن هذا المباح لا نستطيع أن نمارسه على إطلاقه؛ بل لا بد من تنظيمه وَفق المسموح والممنوع، والأمر والنهي، مراعين بذلك جلب المصلحة ودفع الضرر، ورفع الحرج، لذلك قال الأصوليون: لا يُطبق المباح إلا مُقيداً، وهذا لا بد له من مجالس مختصة (كمجالس الشورى أو البرلمانات ونحوها) فيها خبراء يُنظّمون حقل المباح، كالتعليم والسير والجمارك و.. إلخ، فيُصدرون تشريعات ظرفية غير أبدية مستندة إلى إحصاءات ودراسات مُعينة عن الموضوع المعنية بتنظيمه أو بمنعه أو السماح به، فيصدر مثلاً قانون السير، وقانون التعليم… أي يقومون بتقييد المباح، ويُشرّعون الأنظمة الظرفية بما يخدم مصالح المجتمع. فإن كان ثمة إجماع فلا بد أن يكون في هذه المجالس فقط.