مفهوم النقد الذاتي قرآنياً!

10-09-2024

إن من أهم أسباب تقدم الغرب أنه يسمح لأبنائه بنقد كل شيء؛ لأنه وجد في النقد طريقاً سليماً لبناء مجتمع يحقق العدالة الاجتماعية، وعندما نقرأ بحوثاً تحذر المجتمعات الغربية من الانهيار، فهذه بحوث تسلط الضوء على المظاهر السلبية لتلافيها ولمعالجة الخلل.

لذلك نحن بحاجة ماسة لنقد واقعنا وماضينا؛ لنتحسس مواقع الخلل فنعالجها، ومواطن الداء فنداويها. والقرآن هو أول من دعا للنقد البَناء، ونقد المجتمع الجاهلي وكشف عواره، ونقد العقلية الأبوية، وذمها، وجاء بالبديل الأنفع.

إن النقد البَناء يختلف عن جلد الذات، ويختلف عن مفهوم التشهير لكونه نقداً يدعو للتغيير لما هو أصلح، ونقداً من أجل التطور والتحضر والإبداع، إننا بحاجة إلى وقفة موضوعية مع موروثنا لنقد ما هو سلبي فيه، والتقدم ببحوث جادة، تطرح رؤاها وبرامجها للتقدم والنهوض. 

أما إذا بقينا صامتين وراضين بما نحن فيه، مباركين الماضي بسلبياته، ومقدسين الموروث بكل ما فيه، ولا نسمح بتمحيصه، ولا بنقده، فلن نتقدم ولن نتطور! وسنكرر أخطاء السابقين.

ولقد أسس القرآن لذلك من خلال مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي اعتبره عموداً من أعمدته، حتى لا يبقى الضال على ضلاله، والمنحرف على انحرافه، ويجب بناءً على الدعوة القرآنية أن يقوم المجتمع كله بتلك المهمة، كلٌّ بحسب استطاعته، لقوله تعالى: 

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. التوبة: 71.

وهنا لا بد أن ننتقل لمسألة غاية بالأهمية، وهي عدم استخدام العنف؛ فالقوة لا يستخدمها إلا ضعيف الحجة، لذلك تجد الأنبياء كلهم حاوروا الآخرين بالحجة لا بالسيف، وعندما تغافلنا عن أسلوب الرد القرآني، اتُهمنا بالإرهاب وضعف الحجة. 

فالقرآن الكريم يرفض أن يكون الرد بغير الطريقة التي ألقيت بها التهمة، وهل هناك اتهام أكبر من اتهام أهل الكتاب للذات الإلهية بالبخل، وأن له ولداً، ومع ذلك فقد عالج القرآن القضية فكرياً، لا بالقوة؛ فالقوة لا سلطان لها على القلوب، والقرآن يؤكد أن الاعتداء يجب أن يُرد عليه بمثله: 

فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. البقرة: 194.

كما بيَّن أننا إنْ اعتدينا فإننا سوف نخسر حب الله لنا حيث قال:      

 وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ. البقرة: 190.

 مما تقدم فإننا نخطئ خطأً استراتيجياً، عندما نرد على الاعتداء بغير وسيلته، ولقد ثبت تاريخياً أن التغيير الفكري أنجع بكثير من التغيير بالقوة، وأن البلاد التي دخلها الإسلام بالكلمة الطيبة والحكمة، لم يخرج منها إلى يومنا هذا، فاعتبروا يا أولي الألباب.

ما تقدم يدعونا إلى إحياء ثقافة العفو القرآنية! ورسول الله ﷺ هو أول من ساهم في تحويل هذه الثقافة والقيمة القرآنية إلى سلوك في عصر الرسالة، وبذلك منح دائرة الدعوة إلى الإسلام بُعداً كبيراً وأفقاً واسعاً، وحوَّل خصوماً أشداء إلى حلفاء له، وما فعله من عفو وتسامح مع أهل مكة عند فتحها، ليس إلا دليلاً على إصراره في توسيع دائرة ثقافة العفو اجتماعياً.

ولو استعرضنا بعجالة ثقافة العفو والتسامح والصفح في القرآن، لوجدنا أنها سلوكيات، أُمرنا بها، ولا عذر لمن يتجاوزها مهما كانت الأسباب، فعندما يرغبنا القرآن قائلاً: 

وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. آل عمران: 133-134.

هنا يبين عز وجل أن أصحاب الجنة لديهم سلوكيات، تخلقوا بها، وتتمثل بتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذه العدالة لا تتحقق إلا عندما تصبح ثقافة العفو سلوكاً ممارساً لدى أبناء المجتمع، لذلك قال: 

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. الأعراف: 199.

ومعنى (خُذ العفو) هنا أي اقبل به من المخطئ؛ لأن العفو عن المخطئ يمنحه فرصة في تصحيح سلوكه، ولا يفسح له المجال للتمادي بالخطأ، وحتى تتحول ثقافة العفو إلى سلوك اجتماعي قال تعالى: 

وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. فصلت: 34.

الملاحظ في هذه الآية أن الله لم يقل (ولا تستوي الحسنة بالسيئة) بل قال (ولا السيئة) لأنه لو وضع الباء لجاء بالمثلية، ولا يمكن أن تتماثل الحسنة بالسيئة، بمعنى لا مقارنة بين الإحسان والإساءة. 

كما بين القرآن أن أعظم إنفاق تقوم به هو العفو والتسامح والصفح عن الآخرين؛ وذلك بقوله تعالى: 

وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. البقرة: 219.

إن غياب تلك السلوكيات القرآنية تجعلنا عندما نختلف فيما بيننا نستدعي خلافاتنا التاريخية كلها، وننبش كل ما يُسعِّر الخلاف، وبذلك تموت فينا جذوة الإبداع، وتزدهر عاهات التخلف، وننسلخ من إنسانيتنا التي يُصرُّ القرآن الكريم على وجوب التمسك بها.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

الثقافة التربصية!

احمد الرمح

02-09-2024

آراء الكتاب

الهزيمة الثقافية

احمد الرمح

02-09-2024

آراء الكتاب

مفهوم النقد الذاتي قرآنياً!

احمد الرمح

10-09-2024

آراء الكتاب

كيف نقدم الإسلام اليوم؟

احمد الرمح

19-09-2024

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

الرشد للذكور لا غير

رنا زكار

02-09-2024

آراء الكتاب

العشاء الأخير

سامر إسلامبولي

02-09-2024

آراء الكتاب

فكر عابر للقارات

رنا زكار

02-09-2024

آراء الكتاب

كونشرتو طالبان

رنا زكار

02-09-2024

ارسل بواسطة