بعد أن فقدت الأمة رشدها نتيجة ولادة ثقافة الاختلاف المذموم الذي ذهب ضحيته مئات آلاف عبر تاريخنا، تولدت بسبب هذا الاختلاف “فيروسات” كثيرة، تمكنت من عقولنا، فحرفتها عن طريق الصواب، وجعلتها تتخبط في دياجير التشرذم والعداوة، لتفرّخ تلك الثقافة فيروسات كثيرة؛ أُصِيبَ بها بعضنا.
ومن أخطر تلك الفيروسات فيروس (الثقافة التربصية) ونقصد بالثقافة التربصية التركيز على النقاط السوداء عند الآخرين متجاهلين النقاط البيضاء الموجودة لديهم، كما أصبحنا نحمل مجهراً نسلطه على زلّات الآخرين وعثراتهم، لنهدم ما بنوه لا لشيء! إلا لكوننا نختلف معهم في الرؤية؛ أو الوسيلة؛ أو المنهج.
القرآن الكريم عمل على تأسيس العقل الإنساني؛ حتى يكون عادلاً ومنصفاً لا يبخس حقَّ الآخر، وبالوقت ذاته أسس العقل على رفض الثقافة التربصية لنكون عادلين مع خصومنا أياً كانوا؛ فقال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ) الأنعام:152
وحذرنا من أن يحملنا الاختلاف المذموم على تجاهل النقاط البيضاء عند الآخرين المختلفين معنا في الاعتقاد أو الأيديولوجيا، فقال:
(وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) المائدة:8
ولكن للأسف الشديد مع ادعائنا العدل واحترامنا الرأي الآخر ودعوتنا إلى فتح جسور التواصل مع الآخرين؛ إلا أن الثقافة التربصية تمكنت منا في تعاملنا مع الآخر، حتى أصبحنا لا نرى إلا أخطاءه، وقد تكون أخطاء في مفهومنا لا مفهومه، بل ربما تكون صواباً في رؤيته؛ فإمكانية تعدد الصواب واردة جداً.
تفشي الثقافة التربصية التي انتقلت من النخب المثقفة إلى العوام، حتى أصبحت وباءً تربوياً! يجب البحث عن مضادات حيوية لها لوقف هذا الفيروس والقضاء عليه، كيلا يزداد تآكل العقل، لقد أصبح مجال عمل الثقافة التربصية في ثلاثة اتجاهات وهي:
• الأول: القراءة التربصية:
عندما نقرأ بحثاً أو كتاباً أو مقالاً أو (منشوراً) لكاتب قد نختلف معه أيديولوجياً؛ أو اعتقادياً؛ أو سياسياً، الأصل أن أبحث في عمله عما ينفعني؛ ويرفع من ثقافتي ويوسع مداركي، ولهذا كانت القراءة، لكن الثقافة التربصية جعلتنا لا نبحث عن الفائدة العلمية والثقافية؛ بل نبحث عما يجعلنا ننتقده، ونعري أخطاءه أمام الآخرين، ونفضح ما نظن أنه عورات في مفهومنا، ربما لا تكون كذلك في مفهومه. في حين أن القرآن الكريم حثنا على البحث عما هو مفيد، والأخذ بما هو صالح ونافع، وترك ما سوى ذلك، فحذرنا مما سماه القراءة العضينية (القراءة المجتزأة) حيث قال: (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ). الحجر:91
أي الذين اجتزؤوا النصوص من سياقها لخدمة أفكارهم وتوجهاتهم.
إن الإصرار على القراءة التربصية ونحن نقرأ الآخر، إنما يزيد شقة الاختلاف المذموم بيننا، ويحرم العقل من الاستفادة من أفكار الآخرين وتجاربهم، ويمنعنا من عملية التنمية والتحضر التي نحتاجها اليوم كثيراً.
• الثاني: السماع التربصي!
القراءة التربصية ولّدت السماع التربصي؛ فحينما أتحاور مع الآخر أو أستمع إلى محاضرة لباحث ما، الأَوْلى أن أركز على النقاط الإيجابية لديه للاستفادة منها، حتى أضمها إلى رصيدي المعرفي، إلا أن الثقافة التربصية؛ جعلتنا نبحث عند الاستماع لهذا أو ذاك إلى تحليل لا ينسجم مع توجهاتنا أو آرائنا أو ثقافتنا، فنحول الحوار معه من وسيلة للتفاهم والتعايش إلى طريقة لحرمان الآخر من طرح أفكاره وآرائه، ومحاولة إثبات أنه على الخطأ المطلق، مع أن الحقيقة المطلقة لا يملكها إلا اللَّه سبحانه وتعالى، وأما أفكارنا وأحكامنا فهي نسبية، ومن الجنون أن نعطيها صفة الإطلاق؛ لأن ذلك يتنافى مع المنهج العلمي.
لقد أصبحنا بسبب الثقافة التربصية لا نسمع الآخرين إلا تربصياً متجاهلين عن عمد الخير والصواب في كلام الآخرين، حتى انعدمت عندنا أمانة النقل.
• الثالث: النظرة التربصية!
القراءة التربصية والسماع التربصي، نتج عنه -في ثقافتنا التي تحتاج إلى إعادة تقويم عاجلة- النظرة التربصية التي تتمثل بألا أرى في الآخرين إلا عيوبهم ونقاطهم السوداء، مع ممارسة العَمَه الإرادي عن الجمال والحق والصواب عند الآخرين.
إن الثقافة التربصية جعلت منا نقَّاداً للآخرين بطريقة سيئة دون أن نستطيع تقديم ما قدموا، ولا فعل ما فعلوا؛ بل انحصرت مهمتنا في تثبيط المبدعين، والعمل على تكريس ثقافة الاختلاف المذموم؛ فأصبحنا أدوات هدم وعرقلة للتنمية والرقي الحضاري والمعرفي، بدلاً من أن نكون متكافلين متضامنين للوصول بمجتمعاتنا نحو التنمية والنهضة.
إن الواجب الأخلاقي والوطني والديني يحتم علينا أن نعيد النظر في ثقافاتنا التي تسللت إليها سلوكيات هدامة، ألبسناها ثوب الشرعية، ولم تكن كذلك أبداً، ومن الواجب أن يعمل المُؤثّرون بالرأي العام على وأد تلك الثقافات السلبية التي تضع العصا في عجلات التقدم والتطور والنهضة، وألا يألوا جهداً في تصحيح تلك الثقافات السلبية التي تسللت إلى عقولنا لحظة الوهن الثقافي؛ حتى جعلته تربصياً عدوانياً. وإن لم نتدارك تلك الخطايا الثقافية؛ فإننا نساهم في انحطاط مجتمعنا وتشتته أكثر فأكثر.