الهزيمة الثقافية

02-09-2024

كل أمم الأرض هُزمت عسكرياً عبر تاريخها؛ ولكن الأمم الحيّة هي التي تبحث في أسباب وعوامل هزيمتها العسكرية، وتعمل على تجاوزها؛ حتى لا تتحول إلى هزيمة ثقافية. فالهزيمة العسكرية يتم تجاوزها مع الزمن، ولكن الهزيمة الثقافية تحتاج إلى أكثر من جيل لتجاوزها؛ لكونها تؤثر على البنية العقلية والروح المعنوية للمجتمع، وتترك آثاراً نفسية ليس من السهل تجاوزها.

لذلك عندما وجد موسى عليه السلام بني إسرائيل مهزومين من الداخل، هزيمة ثقافية، خرج بهم إلى سيناء، ودخلوا في التِّيه؛ حتى انتهى الجيل المهزوم ثقافياً، وجاء جيل جديد ملَكَ العزيمة والإرادة والطموح. فالهزيمة الثقافية أخطر من الهزيمة العسكرية! لماذا؟

إن التاريخ قد بين لنا أن الأمم التي هُزمت عسكرياً، ووُلِدت عن الهزيمة العسكرية هزيمة ثقافية؛ ضاعت هويتها ومُسخت شخصيتها وانتهت تاريخياً! فإمبراطورية الفرس العظيمة عندما انهزمت أمام الإسلام عسكرياً؛ ثم ثقافياً، ضاعت هويتها، واستبدلتها بهوية الفاتحين الجدد، وقبلت ثقافة المنتصر وأيديولوجيته.

أما التتار فرغم انتصارهم العسكري علينا، لكنهم هُزموا أمامنا ثقافياً؛ لأننا كنا أقوى منهم في هذا المجال؛ فهم وإن استعمرونا إلا أنهم سرعان ما خرجوا من بلادنا يحملون ثقافة الإسلام وعقيدته؛ وهذا حدث تاريخي فريد.‏

ولكن هناك أمم كثيرة هُزمت عسكرياً، ولما لم تصل هزيمتها إلى ثقافتها، عادت من جديد لتقف على قدميها أقوى مما كانت؛ فاليابان هُزمت عسكرياً، لكن حكماءها تدارسوا أسباب الهزيمة، وبحثوا عن الأسباب التي تجعلهم ينهضون من جديد، واللحاق في ركاب الدول المتطورة، ونجحوا في ذلك؛ وكان أهم عاملين في منع حصول الهزيمة الثقافية لديهم؛ أنهم وضعوا برنامجاً للتعليم ينهض بالجيل الجديد؛ وآخر لاستراتيجية اقتصادية، وخلال سنوات عادت اليابان إلى طليعة الدول المتطورة.‏

أما ألمانيا التي لحقت بها أخطر هزيمة عسكرية؛ مرت بالمرحلة ذاتها التي مرت بها اليابان فاهتمت بالتعليم، وأنشأت جيلاً ذا عقلية جديدة، ووضع علماء الاقتصاد وعلى رأسهم “جوزيف شاخت” استراتيجية جديدة حفظتها من الوقوع ببراثن الهزيمة الثقافية، رغم أن الحلفاء قسموها إلى بلدين بأيديولوجيتين متناقضتين! لكن إيمان الشعب الألماني بخصوصيته الثقافية، وتجاوزه للهزيمة العسكرية؛ جعلته ينهض من جديد ليكون من أعظم اقتصاديات العالم.

ولقد كان رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام حريصاً على هذا المبدأ؛ فبعد حصول الهزيمة العسكرية في معركة (أحد) سرعان ما جمع المسلمين بعد عودتهم؛ ليلحق بالمشركين إلى (حمراء الأسد) مانعاً حصول هزيمة نفسية/ ثقافية؛ كما حَرَمَ المشركين من أن يستفيدوا سياسياً من نصرهم؛ وكانت تلك الهزيمة درساً وحافزاً لمجتمع الرسالة حتى لا يقع في هزيمة أخرى.‏

إذاً؛ نحتاج ونحن نعيش عصر الهزائم العسكرية المتلاحقة أن نحذر من الوقوع في الهزيمة الثقافية، وعلينا للوقاية من ذلك أن نفهم ديننا فهماً صحيحاً، يختلف عن الفهم الموجود اليوم في أذهاننا، وأن نعود إلى مقاصده الأساسية، التي تجعل العالم ينفتح علينا ولا يخاف منا، إذ لولا هذا الدين الذي حمى الأمة قروناً رغم الهزائم الكثيرة لكانت أثراً بعد عين.‏

إن إهمال التحذير القرآني من الوقوع بالأسباب ذاتها التي أدت إلى هزيمة واندثار الأمم السابقة، سيجرنا إلى هزيمة ثقافية يعدُّ الخروج منها أمراً صعباً للغاية. فما نحتاجه حتى لا ننهزم ثقافياً؛ نحتاج تجديداً في البنية الثقافية للخروج بالمجتمع من قابلية الهزيمة إلى إرادة الانتصار الحضاري.‏ والاهتمام بالتربية المترافقة بالعلوم المعاصرة لإيجاد جيل يؤمن بالقدرة على تحقيق قفزة حضارية ونهضة علمية؛ وبإحياء مفهوم الإنسانية تكون اللحمة الوطنية.

ويجب ألا ننسى أن الأمة التي تنهزم ثقافياً، سيكون من السهل جداً هزيمتها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً؛ فالعامل الثقافي كالقفص الصدري الذي يحمي القلب والرئتين، فإنْ تهشم أو ضعف سقط كل شيء خلفه، وبالتالي سينهار الجسد كله.
إن مفهوم إحياء إرادة النصر وعدم الاستسلام؛ الخطوة الأولى باتجاه النصر الحضاري ذاته، وإيمانك بعدالة قضيتك‏؛ يحميك من الوقوع في مستنقع الهزيمة الثقافية؛ ليجعلك أكثر وعياً؛ فتعرف طريق الانتصار الحضاري؛ لتسلكه، وطريق الهزيمة الحضارية لتتجنبه.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

الثقافة التربصية!

احمد الرمح

02-09-2024

آراء الكتاب

الهزيمة الثقافية

احمد الرمح

02-09-2024

آراء الكتاب

مفهوم النقد الذاتي قرآنياً!

احمد الرمح

10-09-2024

آراء الكتاب

كيف نقدم الإسلام اليوم؟

احمد الرمح

19-09-2024

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

الرشد للذكور لا غير

رنا زكار

02-09-2024

آراء الكتاب

العشاء الأخير

سامر إسلامبولي

02-09-2024

آراء الكتاب

فكر عابر للقارات

رنا زكار

02-09-2024

آراء الكتاب

كونشرتو طالبان

رنا زكار

02-09-2024

ارسل بواسطة