يُعرَّف سن الرشد بكونه السن الذي يصبح الإنسان فيه قادراً على اتخاذ القرارات وتحمل مسؤوليتها؛ حيث يبدأ تمييز الخطأ من الصواب، وموازنة الأمور بتعقل، ووفقاً لمعايير عدة نجد أن معظم الدول اعتمدت سن الرشد بين الثامنة عشرة والحادية والعشرين.
وكي يختار المرء خط حياته يجب أن يكون بالغاً راشداً، والبلوغ البيولوجي لا يعني الرشد، وهذا ينطبق على الجنسين، ذكوراً وإناثاً.
وباعتبار أن مجتمعاتنا ما زال فيها من يرى المرأة “ضلعاً قاصراً”، و”النساء ناقصات عقل ودين”، رأى هؤلاء أن المرأة أو البنت، لا يطلب رشدها في الزواج؛ فهي تمثل أداة إنجاب لا أكثر، وبالتالي يمكن لها أن تكون قاصراً، فهي غير مسؤولة عن أي قرار ولا عن تعقل، ويمكن لوليها أن يزوجها وفق إرادته، ثم يتولى زوجها شؤون حياتها كأي قطعة أثاث في بيته، والذريعة الجاهزة دائماً التي تحمل كل ما نريده من زلّات هي “الإسلام”.
ثمة أمور عدة يجب علينا تفنيدها هنا.
– أولها أن التنزيل الحكيم وضع الرشد معياراً للمسؤولية؛ ففي قوله تعالى فيما يخص أموال اليتامى، ذكوراً وإناثاً: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 6) ارتبط الرشد بوعيهم والتصرف بأموالهم بطريقة سليمة.
– يستند “الشرع” في موضوع سماحه بزواج الطفلات إلى قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق: 4). ويعتبر أن “اللائي لم يحضن” هن البنات الصغيرات اللائي لم يصلن بعد للبلوغ، وهذا غير منطقي، فقوله تعالى “من نسائكم” يعني أن الموضوع يخص امرأة بالغة راشدة، حيث النساء هنا جمع امرأة، وهناك نساء شابات قد يمررن بفترة ينقطع عنهن الحيض لأسباب متعددة؛ منها الرضاعة أو أمراض الغدد أو ما شابه، لذلك وباعتبار النص يُقرأ وفق الأرضية المعرفية لكل زمان ومكان، يمكننا استنتاج أن المقصود ليس الطفلات.
– من جهة أخرى يستند “الشرع” إلى ادعاء زواج النبي (ص) من السيدة عائشة وهي في عمر السادسة والدخول بها في عمر التاسعة، وهذا وفق المصادر التاريخية غير صحيح؛ حيث أجمعت جل الكتب على كون أسماء بنت أبي بكر أكبر من أختها عائشة بعشر سنين، وأنها ولدت قبل هجرة الرسول بسبع وعشرين سنة، وقد ماتت ولها من العمر مائة سنة وذلك سنة ثلاث وسبعين للهجرة، مما يعني أن عائشة هاجرت وعمرها سبع عشرة سنة، وقد تزوجها النبي في السنة الثانية للهجرة أي كان عمرها تسعة عشر عاماً، على أننا عبر العصور قبلنا الإساءة لرسولنا الكريم على أن نُكذِّب الرواية.
وإن كانت الظروف الزمانية والمكانية في مختلف أنحاء العالم قد سمحت بزواج القاصرات في الزمن الماضي، فهذا غير مبرر اليوم، مع تغير نمط الحياة بكل ما فيها؛ فالزواج لا يتعلق بالجنس فقط، على ما يمكن أن يسببه ذلك من أمراض للفتيات في سن صغيرة، وإنما هو مسؤولية كاملة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21)، فهل الطفلة ستكون لها الأهلية ليسكن إليها؟ هل تملك من نضج المشاعر ما يساعدها على المودة والرحمة؟ ناهيك عن تحمل تربية طفل أو أطفال في وقت لاحق.
لذلك حتى لو أن الأمر كان حلالاً، فليس كل حلال مقبولاً، ويمكن للقوانين أن تُشرِّع ما تجده مناسباً.
فما بالكم لو كانت القوانين مقبولة نسبياً، وأردنا استبدالها بما هو مجحف ويعود بالمجتمع إلى الوراء كما يُتداول في أحد البلدان العربية؟
خلاصة القول نجده في رأي علم الاجتماع: “لا يمكن للرجل أن يتحرر إلا بتحرر المرأة، ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي إلا بتحرر وارتقاء أكثر فئاته غبناً؛ فالارتقاء إما أن يكون جماعياً عاماً أو مجرد أوهام”.*
وإن تتحرر المرأة يعني أن تملك زمام نفسها؛ فتقرر ما تريد كما الرجل تماماً، دون أن يتحكم في قرارها أحد، أو أن يفرض عليها ما لا ترضاه، فلها حق الدراسة والعلم والعمل والزواج بمن تريد، أو على الأقل رفض الزواج بمن لا ترغب به.
وكل هذا يتطلب الرشد، لا أن تكون قاصراً لا تملك من أمرها شيئاً، فلنا أن نختار ما نريده لمجتمعاتنا، تخلفاً أو رُقيَّاً.
*(التخلف الاجتماعي – سيكولوجيا الإنسان المقهور – د.مصطفى حجازي).