جاء في الخبر أن حكومة طالبان أتلفت أجهزة موسيقية باعتبارها غير أخلاقية، وطالبت الشباب بوقف الاستماع والترويج للموسيقى.
وكان قد تفاءل الكثيرون حين عادت الحركة للحكم؛ على اعتبار أنها نسخة معدلة عن سابقتها، وهي أكثر انفتاحاً وتحضراً.
وإذ يبدو أن طالبان الجديدة لا تجنح للعنف، لكنها لم تغير لَبوسها؛ فالعقل ذاته، وربما يظهر بشكل واضح في كل ما يخص المرأة وتعليمها وعملها ولباسها؛ حيث حرمت البنات من الدراسة الجامعية تحت شعار “الإسلام أولاً”، ومُنعن من العمل، وأمرن بتغطية وجوههن، وأغلقت صالونات التجميل، والقائمة لا تنتهي من قمع للحريات.
إن أردنا الإنصاف، علينا الإقرار أن هناك فئة كبيرة من “المسلمين” لا يجدون في قرارات طالبان ما هو مستهجن؛ بل على العكس ينظرون إليها بعين الرضا والاستحسان، ويثنون على ما قامت به، لتنقذ شعبها من الضلال؛ فالموسيقى والغناء والفنون بشكل عام تدخل كلها في عقلنا الجمعي على اعتبارها من المعاصي، إن لم تكن من المحرمات أصلاً.
فإذا بحثنا في موروثنا وجدنا تحريماً للغناء وآلات الطرب، فيما نجد استثناء للدف والغناء في الأفراح، وهذا ما يُتَّبع في حلقات الذكر والدروس الدينية في بلادنا، حيث يمكن استبدال كلمات الأغاني الدارجة بمدائح نبوية أو ما شابه.
وعلى طرف آخر نجد أبا حامد الغزالي يقول: “وأما الشافعي رضي الله عنه فليس تحريم الغناء من مذهبه أصلاً”، وينقل عنه قوله: “فأما الحداء وذكر الأطلال والمرابع وتحسين الصوت بألحان الأشعار فمباح”.
على أن المشترك في الفتاوى السابقة واللاحقة هو اعتماد أن الموسيقى والغناء هي “لهو الحديث” المذكور في قوله تعالى: {مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (لقمان: 6)، واللهو هو الانشغال بشيء عن شيء، وهناك من يرى اللهو أنه “الانتقال من وجه معيشة إلى وجه آخر؛ فالاستيقاظ يلهي عن النوم والعمل يلهي عن الراحة”، وبذلك المعنى تكون الحياة الدنيا هي دوام الانتقال من حال إلى حال، أما لهو الحديث فقد يكون الالتهاء بحدث باطل عن حدث حق، ومن ثم البناء عليه والتمسك به حتى يصدقه الناس ويضلون عن طريق الصواب.
بغض النظر عن التفاسير والتكهنات، لا يوجد ما يشير إلى الموسيقى والغناء في الآيات، وإذا كان المقصود أن الغناء والموسيقى يلهيان المرء عن ذكر الله ففي حياتنا اليومية هناك من الأقوال والأفعال الفارغة التي لا تجدي نفعاً ما لا يُعد ولا يُحصى، أما ذكر الله فالمفروض أنه قائم دائماً، سواء لنبتعد عن المحرمات أو لنمتثل للأوامر، فنبرّ والدينا ولا نأكل مالاً حراماً ولا نرتكب فاحشة ولا نقتل ولا ننقض العهد ولا نغتب ولا نتجسس، إضافةً لإقامة الصلوات والدعاء وما نود من خلاله التقرب إلى الله.
وإذا كنا نقبل بالدف على اعتبار سماح الرسول (ص) به؛ فربّ سؤال يطرح نفسه هنا: هل كان هناك بيانو في ذاك الزمان والمكان ولم يستخدموه؟ هل استمع الصحابة الأجلاء لصوت فيروز وامتنعوا عنه؟
قد يقول قائل: وماذا عن الموسيقى والأغاني الهابطة؟ إنما الأمر نسبي، والأذواق تختلف، وكل إنسان حر باختياراته وأهوائه؛ ربما تجد نفسك معنياً بتحسين الذوق العام في محيطك، لكنك لن تستطيع فرض ما تريد على غيرك، إضافةً إلى أن ما قد تراه هابطاً يراه غيرك مقبولاً أو حسناً، والعكس صحيح، وهذا لا شأن له بالحلال والحرام.
وإذا فرضنا أن الموسيقى حرام والاستماع إليها ضلال، هل للسلطة أن تفرض على الناس ما تراه هي في مصلحتهم؟ هل تريد إرسالهم إلى الجنة بالإكراه؟ ألم يقرؤوا ما أنزل الله في كتابه العزيز: {ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).
أخيراً، ثمة أمر بالغ الأهمية يجب ألا يغيب عن بالنا؛ هو أن الله تعالى خلقنا لنحيا بسعادة على ألا نسيء للآخرين، ضمن خطوط عريضة من القيم الأخلاقية الباقية حتى قيام الساعة، لا أن نعيش تعساء تحت راية الدين؛ فخالق هذا الكون، بكل ما فيه من دقة لا متناهية وجمال هائل، لا بد وأن يريد لنا الاستلهام مما نراه حولنا، لنبدع موسيقى وفنوناً تسمو بالنفس وترقى بها نحو خالقها.