كثيراً ما نُسأل كدعاة للتنوير: ماذا تريدون؟ ولماذا تخرجون عما جاء به الأولون؟ وكيف تفهمون التنوير؟
وهذه أسئلة محقة! لا بد من الإجابة عنها بوضوح كامل، وبيان السمات العامة التي نجعلها مبادئ تنويرية ونحن نتعامل مع الإسلام، ولا ندعي صوابيتها، وإذا ما ثبت بطلان هذه السمات والمبادئ وكذلك المنهج فإننا نعود للصواب، ونراجع أنفسنا، وأفكارنا.
ولكننا يقيناً نرفض منطق الوصاية علينا من سدنة الدين الموازي وأنصاره، والفصل بيننا وبينهم فيما نقدم وندعو هو الحجة القرآنية، والعقل، والمبدأ الإنساني، ومصلحة المجتمع البشري، ونترك الحكم للناس فيما نقدم، وندعو وننقد.
ونعلم جيداً أن ما نقدمه وندعو إليه بغيض جداً لسدنة التراث وأتباعهم! وكهنة الإسلام السياسي وأنصارهم! ولكننا نؤكد على اتباعنا للدين الحنيف، ورفضنا للدين الموازي، الذي تأطر وتمت صناعته عبر المراحل التاريخية لأسباب سياسية، ساهم في ولادته وتأطيره تحالف الفقهاء والأمراء عبر التاريخ والحاضر.
كيف نقدم الإسلام اليوم؟
لا شك بأن الإسلام الذي ندعو إليه قاعدته النص القرآني، ولكنّ العقل هو أداة فهمه وتنزيله على الواقع، وهذا يعني أن الظاهرية في التعامل مع النص والاستشهاد العِضيني به المعتمد عند دعاة الدين الموازي وفقهائه، أو تقيد هذا الفهم للنص بفهم السلف! يجعل النص محنطاً لعصر معين، وعاجزاً عن معالجة النوازل المعاصرة، ولهذا يُسجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان أول التنويريين الذين اجتهدوا في النص، وتجاوزوا ظاهره إلى مقاصده، فكان المجدد الإسلامي الأول بامتياز، حينما وجد الفهم الظاهري للنص يقف عائقاً أمام مستحدثات واقعية، فذهب إلى روحه ومقاصده، فكان مبدعاً عقلانياً إنْ في مسألة قطع يد السارق، أو سهم المؤلفة قلوبهم، أو موضوع أرض سواد العراق، وبدلاً من أن ننطلق من هذا التجديد والتنوير(العُمَري) لنحوله إلى منهج في التعامل مع النص، انقلبنا على أعقابنا وعدنا إلى ظاهرية مقيتة! جعلت النص ممنوعاً عن محاكاة الواقع وحلِّ مشاكله، حتى وقع طلاق بائن ما بين النص والواقع ومتطلبات الحداثة.
كما يُسَجَّل لأمنا عائشة رضي الله عنها أنها أول من نقدت الرواية المنحولة على رسول الله، وردَّت تَقَوُّل بعض الصحابة على لسان النبي، لمخالفتها القرآن الكريم، أو لأنها مجتزأة من سياقها، أو ليست صحيحة!
وعندما يُقال بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، هذا يعني أن فهم النص القرآني فهم متغير ومتبدل بحسب حاجيات وضرورات ومشاكل المجتمع، ولا يعني أبداً القياس على أقوال تراثية والبحث في كتب السابقين عن حلول لمشكلاتنا، فعملية البحث عن أدوية لأمراضنا في صيدليات الأولين، تشبه كثيراً حالة من أصيب بمرض ورغم تقدم الطب والأدوية يبقى مصراً على تناول أعشاب من عند العطارين!
وبالتالي فإننا نقوم تنويرياً بإخراج مقولة الإسلام السياسي "الإسلام صالح لكل زمان ومكان" من حيزها الشعبوي المدغدغ لرغبات التدين الشعبوي والسياسي إلى حيزها العلمي؛ بمعنى آخر: إننا نرى أن فهم النص فهم متغير ومتبدل بحسب حاجات وضرورات ومصلحة المجتمع، وحيثما تكون مصلحة المجتمع فثمة شرع الله، ولا تعني أبداً القياس على أقوال تراثية قيلت لعصر مختلف عن عصرنا تماماً، ولا نبحث في كتب السلف عن حلول لمشاكلنا! حتى جعل سدنة الدين الموازي التدين المعاصر نسخة من التدين المنتج في القرن الثاني والثالث والرابع الهجري معتمدين على فهم فقهاء ومحدِّثي تلك القرون دون أية محاولة لإعمال العقل! ولا يعتمدون المقاصد القرآنية؛ بل جعلوا القرآن للبركة فقط؟ يُقرأ في رمضان قراءة ببغائية! أو لتتغنى به الأصوات الجميلة! أو يُتلى على قبور الموتى! وفي الصراعات الأيديولوجية نستخدم بعض نصوصه عِضينياً لمآرب سياسية وسلطوية!
فالتنوير عندنا هو التعامل المباشر مع النص بأدوات معاصرة وعقلانية، وواقعية، تجعل مصلحةَ المجتمع والمبدأ الإنساني مقدمة على كل شيء. ولذلك نقول: ابدأ من الإنسان لتصل إلى الله، ولا تبدأ من الله حتى تصل للإنسان. فإنسانيتك توصلك إلى الهدى حتماً.
فكما اجتهد الأولون وأوجدوا حلولاً لمشاكلهم، علينا أن نجتهد لإيجاد حلول لمشاكلنا؛ معتمدين المثلث المعرفي (النص + العقل + الواقع) والكلمة الأخيرة في حلِّ المشاكل لأصحاب الاختصاص والخبراء الاقتصاديين والقانونيين والدستوريين ومن شابههم، وليست محصورة بالفقيه فقط؛ فمنطقة الفراغ التشريعي التي أشار إليها الحق سبحانه وتعالى بقوله: وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ. النساء: 24. لا علاقة لرجل الدين فيها، وإنما يملؤها تنظيمياً الخبراء المختصون بالواقعة.
إذن، علينا أن نقدم إسلامنا متصالحاً مع المعاصرة، ملتزماً بمقاصد النص القرآني، محافظاً على النفع البشري، مستخدماً العقل والعلم والإنتاج المعرفي المعاصر؛ ليكون الإيمان قد تزيّن بالعلم والمعرفة، لا غريباً عنها، ولا معارضاً لها. إسلاماً يقول للمخالف (لكم دينكم ولي دين) ولكن تعالوا إلى كلمة سواء تنفع الناس، وأما الزبد فسيذهب جفاء.