يتوهم كثير من المسلمين وجود تعارض بين حاكمية الله وحاكمية الإنسان، وبعضهم يضعهما في مواجهة بعضهما البعض وفق قسمة ثنائية، قائلاً:
هل تقبل حكم الله الإلهي العادل أم تقبل القانون الوضعي البشري الأرضي القاصر والجائر؟
فحاربوا القانون الوضعي وحاربوا الديمقراطية والبرلمانات؛ لأنها تشريع ما لم يأذن به الله، ولأنها شِرك بالتشريع، حسب ما يتوهمون.
وإزاء تلك القسمة الثنائية الجائرة كان الموقف من الديمقراطية والبرلمانات متفاوتاً:
فبعضهم يرى جواز الدخول إلى البرلمان في حالة واحدة وهي تفجيره ونسفه لأنه شرك أكبر، وهو صنم يجب العمل به كما عمل موسى بعجل بني إسرائيل، وهذا رأي بعض الجماعات التكفيرية المتطرفة.
وبعضهم يرى حرمة ذلك؛ ولكن يجوز أو يجب الدخول إليها للضرورة لتحقيق مصالح المسلمين أو لدفع الضرر عنهم، أو لتحقيق الأغلبية ثم الانقلاب عليها لاحقاً.
أما التيار الديني المتنور عامة فيرى أن البرلمانات هي حاكمية الإنسان والتي تُمثل طريقة النبي محمد عليه الصلاة والسلام في التشريع المدني؛ حيث كان يقيد المباح وفق المسموح والممنوع، وهذا عينه ما تفعله البرلمانات في العالم من وضع قوانين للصحة والتعليم والسير.. إلخ؛ فالنبي الكريم كان يسمح ويمنع ويأمر وينهى مراعياً الزمان والمكان والحال، وفق الأدوات والمعارف التي في عصره، وكل ذلك لتحقيق مقصد أو مصلحة أو لدفع ضرر أو لرفع حرج؛ فالنبي الكريم لبس الذهب والحرير ثم نهى عنهما ومنعهما لأنهما لا يتناسبان مع مقام الدعوة، ونهى عن زيارة القبور لأن القوم حديثو عهد بجاهلية، ثم سمح بزيارتها لاحقاً عندما تمكنت مفاهيم الإسلام في قلوبهم.. إلخ.
وراعى عليه الصلاة والسلام حال السائل حين سأله فأجابه بمقتضى حاله؛ حيث وجه له نفس السؤال:
أي العمل أفضل يا رسول الله؟
فأجاب بإجابات مختلفة: (الصلاة على وقتها) لمن قصر فيها. (بر الوالدين) لمن عنده أبوان كبيران. (الجهاد في سبيل الله) لمن كان قوياً ولا التزامات تعوقه عن ذلك.
أما في عصرنا هذا فلا بد أن ينطلق الأمر وفق دراسات من أرباب الاختصاص المتنوعة في الاقتصاد أو الاجتماع أو النفس.. إلخ، ضمن حقل الحلال، ووفق إحصاءات دقيقة للظواهر الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، فتتم دراسة الأمر والتصويت عليه في البرلمان، منعاً أو سماحاً أو تنظيماً وتقييداً، ثم يصير قانوناً ملزماً. وعصرنا أيضاً عصر المؤسسات لا عصر القرار الفردي.
فمثلاً إقرار منع زواج القربى القريبة يحتاج لدراسات وإحصاءات من خبراء ومختصين تُبين ما هي المصلحة المتوخاة من منعه، وما هو الضرر المتحقق في إبقائه، وكذا المسائل الأخرى بمثل تعدد الزوجات، أو تنظيم النسل والأسرة.. إلخ.
وهنا حتى لا يساء الفهم نقول: تقييد المباح وفق المسموح والممنوع مراعاة لمصالح المجتمع، وليس تحريماً؛ لأن التحريم من حق الله وحده، ولا يجوز لأي شخص أو جهة أن تحرم إلا ما حرمه الله، وهذه هي حاكمية الله تعالى التي لا يجوز التعدي عليها.
وما فعلته بعض البرلمانات الغربية من تعدٍّ في بعض الأمور؛ بمثل إقرار قانون يسمح للمثليين بالزواج من بعضهم البعض، فما هو إلا نتيجة فلسفة سائدة في تلك المجتمعات تُعظِّم من الحرية الفردية وترى عدم المساس بها خشية تهديد باقي الحريات، ولكن إساءة استخدام بعض البرلمانات في ناحية معينة لا يبرر محاربتها أو نبذها.
وإذا كانت حجة البعض تحليل الحرام وتحريم الحلال فهذا موجود عند الفقهاء بكثرة؛ فبعض الفقهاء يرى أن الأمر الفلاني مباح وفقيه آخر يراه حراماً، وبعضهم يراه حداً وآخرون يرونه تعزيراً، وبعضهم أوصل كبائر المحرمات إلى العشرات والمحرمات إلى المئات، رغم أنها محدودة ومعدودة في كتاب الله تعالى.
إن تحريم الحلال هو ذنب بنفس مستوى تحليل الحرام؛ لقوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ).
إن نصوص الشرع جاءت من أجل مصلحة الإنسان والمجتمع، وليس العكس، وربما أبرز صورة تطبيقية لذلك ما نُقل عن الخليفة عمر بن الخطاب فيما هو ظاهره مخالفة لبعض النصوص مراعياً مصالح المجتمع.
إن الإسلام بقيمه وتشريعاته جاء ليرفع الحرج والإصر والأغلال عن الناس، وليكون رحمة للعالمين، لا نقمة مسلطة على الرقاب؛ فالأمر يدور على المقاصد والمصالح النافعة التي تُحقق للمجتمع نهضة وتقدماً وأمناً واستقراراً وسعادة.