دأب المسلمون في مؤلفاتهم وحواراتهم مع أهل الكتاب على إبراز الإشكالات لهم في كتبهم المقدسة؛ بهدف إثبات أنها لا تُعد مصدراً موثوقاً لاستقاء العقائد والأحكام، وبالتالي تسقط هذه الكتب بكل منقولاتها ومعقولاتها، وقد استخدموا أساليب عديدة لإثبات ذلك، منها: إثبات التحريف أو التناقض أو الاختلاف أو الغلط في الكتب الأصلية المعتمدة والرسمية.
ويُعد كتاب (إظهار الحق) للشيخ رحمت الله الهندي من أهم الكتب التي عنيت بذلك؛ فقد ذُكِرَ فيه:
التحريف اللفظي: زيادة أو نقص أو تبديل في الألفاظ.
وأما الاختلافات: فتكون مستخرجة بالمقابلة بين النسخ وإصحاحاتها.. إلخ.
وأما الأغلاط: فهي عدم المطابقة للواقع أو العقل أو للتاريخ أو.. إلخ.
وعند التدقيق في كتب الحديث وعلومه نجد التصريح بوقوع التحريف في تلك الكتب من زيادة أو نقص أو تناقض أو اختلاف.. إلخ.
فالزيادات التي أُدخلت في الرواية سموها (المدرجات)، وقد قال صاحب المنظومة البيقونية:
| والمدرجات في الحديث ما أتت | من بعض ألفاظ الرواة اتصلت
وأما النقص في الرواية فيسمونه (الاختصار)؛ حيث يقوم الراوي بحذف شيء من الرواية، وخاصة إذا شك في ثبوته.
يقول الزيلعي في (نصب الراية): (وظيفة المحدث أن يبحث عن أصل الحديث فينظر من خرجه، ولا يضره تغير بعض ألفاظه ولا الزيادة فيه أو النقص.. إلخ).
وأيضاً وقوع الأوهام من الرواة الثقات أو أغلاطهم أو نسيانهم أو خطؤهم أو شكهم.. إلخ، جعل المحدثين يقيدون الرواية الصحيحة بأن تكون خالية من الشذوذ والعلة القادحة.
كما أن أشهر كتب الرواية، وهو كتاب البخاري، اختلفت نسخه وتباينت، كما يقول د.عبد الكريم الخضير، ويضيف المحقق علي العمران أن نسخة كتاب البخاري المطبوعة التي في أيدي الناس نسخة ملفقة من عدة مخطوطات، وأن إعادة طباعة كتاب البخاري دَين في عنق الأمة؛ فقام مع فريق معه بإصدار نسخة عملوا عليها سنوات طويلة يراها هي الأقرب إلى الصواب.
وظهور ما يُسمى علم العلل وعلم مختلف الحديث، وكتب وأبواب تناقش التحريف والتصحيف، يُبين حجم المشاكل التي أصابت الروايات سنداً ومتناً.
وأثناء كلام ابن حجر عن الخبر المحتف بالقرائن في كتابه المشهور (نزهة النظر) بتحقيق د.نور الدين عتر، ذكر أن كتابي البخاري ومسلم احتفت بهما القرائن، ثم استثنى منها فقال: (إلا أنّ هذا يختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التخالف بين مدلوليه ممّا وقع في الكتابين، حيث لا ترجيح، لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر.. إلخ).
وهذا اعتراف من ابن حجر العسقلاني، وهو أمير المؤمنين في الحديث، بوقوع التناقض والتخالف في كتابي البخاري ومسلم.
ومن الأمثلة على الاختلافات ونحوها: ما جاء في قصة (رجم ماعز) حيث نجد فيها الشيء ونقيضه، فمن ذلك: هل جاء إلى رسول الله أم جيء به أم صدفه رسول الله في الطريق؟! اختلاف عدد الشهادات، وهل هي متفرقة أم في مجلس واحد؟! وهل تاب أم لم يتب؟! وهل حفروا له حفرة أم لم يحفروا؟! وهل صلى عليه رسول الله أو لم يصل؟!.. إلخ، حيث نجد رواية تُثبت شيئاً وأخرى تنفي.
رواية الإيمان بضع وستون شعبة، وأخرى: الإيمان بضع وسبعون شعبة. إما يوجد عشر شعب زائدة أو عشر شعب ناقصة.
رواية لا يُصلّين أحدكم الظهر إلا في بني قريظة، وأخرى: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، مع أن سند الروايتين واحد.
رواية أول سورة نزلت هي (اقرأ)، وأخرى: (يا أيها المدثر).
رواية تقول: (من شرب ناسياً وهو واقف فليستقئ)، وأخرى تقول: (رأيت رسول الله يشرب واقفاً كما تروني أشرب).
رواية الدجال أعور العين اليمنى، وأخرى: أعور العين الشمال.
رواية هل اجتمع رسول الله مع الجن ودعاهم، أم لم يجتمع بهم ولم يرهم ولم يشعر بهم.
رواية تنفي العدوى، وأخرى تُثبتها.
وطبعاً هذه الروايات مما حكموا بصحتها، ولو كانت هذه الروايات الصحيحة وحياً إلهياً من الله فسوف ننسب هذا الاختلاف وهذا التناقض إلى الله تعالى، فكيف يكون عندنا نصان من الله العليم الحكيم الخبير ويتناقضان؟!
وبعد ثبوت الاختلاف والتناقض في كتب الرواية المنسوبة للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام؛ فهل ستبقى هذه الكتب مصدراً أصلياً موثوقاً لاستقاء العقائد والأحكام الشرعية، أم ستبقى مصدراً معرفياً ثانوياً حقله التاريخ لا الدين؟!
إنّ الوحي الإلهي لا يتناقض، والتناقض من البشر، والقاعدة الذهبية والمعيار الدقيق هو قوله تعالى: (ولو كان مِن عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً).