وصف الله تعالى كتابه بأنه “لا ريب فيه” (البقرة: 2)، وحثَّ المسلمين على اتباع ما أنزل إليهم من ربهم وعدم اتباع غيره قائلاً: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون) (الأعراف: 3).
واستناداً إلى هاتين الآيتين الكريمتين، سنتدبر الآيات المتعلقة بعقوبة من تأتي الفاحشة وهي ثيب ونقارنها بما قرره أهل الفقه.
قال تعالى:
“ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات… فإذ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب…” (النساء: 25).
أوضح ابن عاشور في تفسيره “التحرير والتنوير” ذلك (أن ينكح المحصنات: أي ينكح النساء الحرائر أبكاراً أو ثيبات).
وما قاله متوافق مع دلالات الآية الخامسة في سورة التحريم:
“عسى ربه إن طلقكن أن يبدله خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً” (التحريم: 5).
والشوكاني في “فتح القدير” حدد بدقة معنى الثيبات والأبكار، فقال:
(والثيبات: جمع ثيب، وهي المرأة التي قد تزوجت ثم ثابت عن زوجها فعادت كما كانت غير ذات زوج. والأبكار: جمع بكر، وهي العذراء، سُميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت عليها).
وهذا المعنى الذي ذكره الشوكاني هو نفسه في دلالات اللسان العربي، فنجد أن الثيب هي المرأة التي عادت إلى حالتها الأولى بعد افتقاد زوجها بسبب الطلاق أو الوفاة، وبالتالي فإن المتزوجة لا تُسمى ثيبا.ً
وجاء في (مفردات ألفاظ القرآن) للراغب الأصفهاني: (أصل الثوب: رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها).
وإذا كانت عقوبة الأمة التي أحصنت هي خمسون جلدة، وهو نصف ما على المحصنات (سواء كن ثيبات أو أبكاراً)، والثيب إذا كانت تعاقب بالرجم حتى الموت حسب تقرير الفقهاء، فكيف سيتنصف الرجم؟!!
أما الروايات التي تُقرر الرجم عقوبة للثيب فهي بذلك تخالف القرآن وتخالف دلالات اللسان العربي.
يقول المحدث واللغوي السيوطي في كتابه “الاقتراح في أصول النحو”:
(.. فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها، فرووها بما أدت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا، وقدموا وأخروا، وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ، ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مروياً على أوجه شتى، بعبارات مختلفة، ومن ثم أنكر على ابن مالك إثباته القواعد النحوية بالألفاظ الواردة في الحديث).
والعجيب أن يسير أهل اللسان العربي وراء هذه الأخطاء سواء ما يتعلق بدلالة الثيب وبدلالة الشيخ، ففي الرواية (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) فهمت بشكل أعجمي بعيد عن دلالتها الأصلية، فجعلوها في الإحصان، مع أن الشيخوخة هي مرحلة عمرية لا علاقة لها بالإحصان؛ لأن المرء قد يصل إلى سن الشيخوخة دون أن يتزوج.
وابن رجب في “جامع العلوم والحكم” يعلق على الحديث الرابع عشر:
“لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة”، مؤكداً أن عقوبة الثيب هي الرجم حتى الموت، وكذلك عد رواية (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) دليلاً على الإحصان مخالفاً دلالات اللسان العربي ودلالات القرآن.
أما الشيخ محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار فيستغرب من عقوبة الثيب كيف تعاقب بالرجم فيقول:
(… ولكن ما بال ((الثيب)) التي فقدت كل واحد من الحصنين تعاقب أشد العقوبتين إذ حكموا عليها بالرجم؟ هل يعدون الزواج السابق محصناً لها؟ وما هو إلا إزالة لحصن البكارة، وتعويد على ممارسة الرجال. فالمعقول الموافق لنظام الفطرة هو أن يكون عقاب الثيب التي تأتي الفاحشة دون عقاب المتزوجة، وكذا دون عقاب البكر أو مثله في الأشد).
والفقهاء يعدون المرأة محصنة ولو تم الدخول بها ساعة من نهار فقط ولو وقعت في الفاحشة بعد عشرين سنة من هذه الساعة التي دخلت بها. وهذا ما ذكره السيد سابق في كتابه “فقه السنة” عندما عدد شروط الإحصان.
وهكذا نصل إلى نتيجة مؤكدة وهي أن الرجم لا يتنصف، وهو عقوبة مخالفة لكتاب الله تعالى، وأن الفقهاء الذين قرروا أن عقوبة الثيب هي الرجم بالحجارة حتى الموت يخالفون الآيات المحكمات ويخالفون دلالات اللسان العربي.