أنعم الله تعالى على الإنسان بالعقل ليهتدي به في هذه الحياة، وجعله مناط التكليف، وعندما يعطل الإنسان عقله مقلداً غيره دون برهان وبصيرة يصير أضل من الأنعام التي لم تُمنح تلك النعمة أساساً.
قال تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) (الملك: 10).
وقال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (الأعراف: 179).
عرف الشوكاني وغيره التقليد بقوله: هو العمل بقول الغير من غير حجة.
يقول ابن الجوزي: (إن في التقليد إبطال منفعة العقل؛ لأنه خُلق للتدبر والتأمل، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها، أن يطفئها ويمشي في الظلمة).
بعد انتهاء (عصر التدوين) الذي انتهى سنة 350هـ تقريباً، دخلت الأمة في (عصر التقليد) الذي امتد إلى سقوط بغداد سنة 656هـ على يد المغول بقيادة هولاكو؛ أي حوالي 300 سنة، ثم دخلت الأمة في (عصر الركود الفقهي) والذي امتد من سقوط بغداد إلى يومنا هذا، ومدته تقريباً حوالي800 سنة. وحكمت الدولة العثمانية حوالي 600 سنة بالمذهب الحنفي.
هذا العرض لهذه التقسيمات مهم جداً لندرك جذور المشكلة وعمقها التاريخي المتأصل عبر قرون مديدة.
وقد عززت عوامل عديدة في ترسيخ التقليد؛ من أبرزها: القول بإغلاق باب الاجتهاد، واستقرار المذاهب الفقهية، مع استقرار سياسي، ودعم وتشجيع رسمي لهذه المذاهب والعناية بمن يتفقه فيها وصرف الرواتب، وبناء المدارس والمكتبات.. إلخ.
وذكر السيد سابق في مقدمة كتابه (فقه السنة) قصة لها دلالة مهمة: سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلاً: ما تقصير الشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني، فقال أبو زرعة: فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قدرت للفقهاء على المذاهب الأربعة وأن من خرج عن ذلك لم ينله شيء من ذلك، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن إفتائه، ونسبت إليه البدعة. فابتسم البلقيني ووافقه على ذلك.
طبعاً عند الفقهاء من وصل إلى رتبة الاجتهاد يحرم عليه التقليد، ومع ذلك نجد من وصل إلى هذه الرتبة وبقي يقلد.
وعلى الرغم من الأقوال الصريحة لأئمة المذاهب الأربعة (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل) في النهي عن تقليدهم وحثهم على اتباع الدليل، فإن التقليد لآرائهم وأقوالهم هو الذي ساد لاحقاً على عكس ما جهروا به من ذم تقليدهم. بل وصلت الجرأة بأحدهم أن قال: (كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ).
وهكذا وقعت الأمة الإسلامية في الآبائية والتقليد الأعمى الذي ذمه الله في كتابه، وعطلت التفكير والتعقل، وأخذت تدور في فلك ما قاله الفقيه شرحاً ونظماً واختصاراً.. إلخ، وبعد الاصطدام مع الغرب أدرك المسلمون البَون الحضاري الشاسع بين الغرب والشرق، وبرزت تساؤلات كثيرة أهمها: (لماذا تقدم الغرب؟ ولماذا تخلف المسلمون؟).
إن القرآن دعوة مفتوحة للتدبر والتفكر في آياته الكريمة، وحث للنظر في آيات الآفاق والأنفس والسماوات والأرض.. إلخ، وحض على السير في الأرض لنعرف كيف بدأ الخلق، ودعوة للنظر في تاريخ الأمم ومعرفة السنن التي تحكمها، وكيف تزدهر القرى وكيف تهلك، وأخذ العبرة من ذلك.
قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) (ص: 29).
وقال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (فصلت: 53).
وقال تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (آل عمران: 137).
ومئات الآيات في ذلك.
إن التدبر والتعقل والتفكر يحرر العقل من القيود، ويحقق الهداية للإنسان، ويُسعده في الدنيا والآخرة، وإن خطورة التقليد هو تعزيز للجهل وإضعاف أو تعطيل للعقل والتفكير، وتفريق للأمة (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء: 92).
(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) (الأنعام: 159).
وآن الأوان للأجيال الجديدة أن تتربى على التعقل والتفكير النقدي والاستقلال الفكري والحوار الجاد والهادف، بعيداً عن الكسل العقلي والثقة المفرطة بما يقوله الفقهاء دون دليل؛ فعصرنا عصر العلم والمعرفة، فإما اللحاق وإما الانسحاق، لك الخيار..