إن فكرة احتكار الخلاص ودخول الجنة لفِرقة أو مذهب معين دون غيره من المذاهب، وأن باقي الفِرق في النار، هي فكرة دخيلة على المسلمين، وتتعارض مع مفهوم أسماء الله الحسنى التي منها العليم والحكيم والرحيم، وأنه رب الناس جميعاً، وتتعارض مع نصوص عديدة في كتاب الله تعالى سنأتي على ذكرها لاحقاً.
وسنستعرض أولاً بعض ما جاء من روايات عن الفرقة الناجية بصرف النظر عن حكم أهل الحديث عليها؛ لأن حكمهم يكون شكلياً، وعندما يقولون إن الرواية صحيحة فلا يعني ذلك أنها قطعية الثبوت وتفيد اليقين في ذاتها بل بما ظهر شكلياً للمحدث حسب مرجعيته.
فمن تلك الروايات:
(افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. قيل يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة)، وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي)، وفي رواية: (كلها في النار إلا السواد الأعظم).
وجاءت رواية عن علي بن أبي طالب أنه قال: (وإن من أضلها وأخبثها من يتشيع أو الشيعة)، الرواية هنا تذم الشيعة.
وجاءت رواية: (تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، وأعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال..)، الرواية هنا تذم من يقول بالقياس.
وجاءت رواية في كتب المعتزلة تقول: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، أبرها وأتقاها الفئة المعتزلة)، الرواية هنا تمدح فرقة المعتزلة.
قال القاضي عبد الجبار معلقاً على هذه الرواية: (إنه لا يمتنع أن يقول ذلك صلى الله عليه وسلم مدحاً لمن يقع هذا اللقب عليه، وإن كان ظهور هذا اللقب إنما يكون لسبب بعد ذلك.. إلخ).
وجاءت رواية تقول: (تفترق أمتي على سبعين أو إحدى وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة. قيل من هم يا رسول الله؟ قال: الزنادقة). الرواية هنا تجعل كل المسلمين في الجنة عدا الزنادقة.
ونظرة سريعة في هذه الروايات نرى أنها صناعة من الفرق ضد بعضها البعض، ويصدق عليها قوله تعالى: (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون) [المؤمنون: 53]، والنبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام لم يقل حرفاً واحداً منها.
وهذا المرض الطائفي لا يقتصر على الفرق الإسلامية فحسب، بل هو موجود في اليهودية والمسيحية؛ حيث ترى كل فرقة أنها تمثل الحق في دينها، وأن باقي الفرق ضالة أو مهرطقة ولن تنال الخلاص الأبدي.
ومن يرى صواب تلك الروايات وأن عدد الفرق (ثلاث وسبعون) نطلب منه أن يُعيِّن لنا تلك الفرق، ولن يستطيع تعيينها؛ فعلى سبيل المثال نرى أن أبا الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين) أعرض عن ذكر حديث الافتراق، وعندما عدد الفرق بدأ بالشيعة فبلغ عدد فرقهم خمساً وأربعين فرقة، ثم الخوارج فبلغ عدد فرقهم حوالي ثلاثين فرقة؛ أي أن فِرق الشيعة والخوارج معاً تجاوز العدد المذكور في الرواية، فما بالك بالمرجئة وفرقها، وكذا المعتزلة والجهمية والمجسمة وأتباع عبد الله بن كلّاب، وغيرهم كثير.
ولكن ماذا يقول القرآن حول فكرة الخلاص والنجاة ودخول الجنة؟
قال تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) [البقرة: 111].
وقال تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً. ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيراً) [النساء: 123-124].
وقال تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة: 62].
وهذه الآيات الكريمة جاءت رداً على كل من يدعي أن فرقته أو دينه أو مذهبه هو الوحيد الناجي، لتقول: إن العمل الصالح الذي ينفع الناس هو ما يريده الله تعالى منا لندخل الجنة.
إن فكرة الفرقة الناجية التي في الروايات مخالفة للقرآن، وأثبت التاريخ أن مآلها الاقتتال والدم، وأن القبول بالآخر بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو لونه.. إلخ، والاحترام المتبادل، هو ما يُحقق التماسك الاجتماعي، والله هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة، وليس للبشر أن يحاسبوا أحداً على فكره أو عقيدته (لا إكراه في الدين). قال تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) [الحج: 17].