العبودية الثقافية استلاب لعقل الأمة

02-09-2024

من أخطر أنواع العبودية على الإطلاق العبودية الثقافية التي تجعل من المرء قزماً أمام عالم أو مفكر أو رجل دين، ومن صور هذه العبودية في ثقافتنا تقديس آراء القدماء امتداداً إلى تقديس المعاصرين؛ حيث يكون السابقون من مفسرين وفقهاء ومحدثين جبالاً وعظماء، ومن لحقهم في عصرنا يتمنون لو كانوا غباراً على نعالهم، وبهذا تم محو الشخصية وإلغاؤها تماماً، وتم إعطاء العقل إجازة مفتوحة، فلا مبرر ولا داعي للتفكير وإعمال العقل “لا تفكر فنحن قد فكرنا عنك”، وهذه الصورة التقديسية للسابقين ومن شابههم من المعاصرين حولتهم حسب توصيف القرآن الكريم إلى أرباب، قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).

ولا فرق بين أن يكون هؤلاء الذين ذكرهم القرآن قد ماتوا وبقيت أفكارهم تحكمنا من قبورهم، أو ما زالوا أحياء يمارسون استعبادهم بإرهاب الناس بأن هذا كفر أو بدعة أو ضلال يستحق العقاب الأبدي في جهنم.. إلخ.

والملاحظ أن هؤلاء لا يُذكرون إلا بالقداسة والتبجيل والتعظيم، والاقتراب منهم نقداً أو تخطيئاً هو انتقاد للدين نفسه، وبهذا صار ما يقولونه هو الدين عينه، وما يخالفه من قول لمفكر أو باحث أو ناقد معاصر مخالفة للدين، وصار إعمال العقل تهمة بحد ذاتها؛ بحيث يوصف من لا يسلّم بالأمور النقلية إلا بعد محاكمة عقلية وتفكر وتدبر بأنه عقلاني، ونسوا أن العقل مناط التكليف، وأن الطفل غير المميز والنائم والمجنون غير محاسبين على أفعالهم لغياب العقل الذي يميز الصواب والخطأ، وهكذا صارت العلوم النقلية الأخبارية والتي ولدت في عصور سابقة علماً يجب حفظه وشرحه، وصارت هي المعيار التي تجعل من الشخص عالماً، ومن يحفظ أكثر يتصدر المجالس أو القنوات التلفزيونية وغيرها.

والذي نشاهده اليوم، أن بعضاً من هذه التيارات التقليدية يلجأ إلى التكفير والتضليل لمن يختلف معه، وبعضها يحمل السلاح ويلجأ إلى العنف ويحارب العلم والفكر المستنير بحجة تحصين الأمة والدفاع عما يظن أنه الشرع.

إن طغيان العلوم النقلية الأخبارية وتقديس القدماء ومن تبعهم من المعاصرين جعل لهم سلطة روحية وثقافية غير قابلة للنقاش أو الشك؛ بل يجب الإذعان لها دون أدنى تفكير أو نقد أو تمحيص لما قالوه، فصار قول الفقيه هو الشرع، والشرع هو قول الفقيه، وهذه الكارثة حلت في الأمة منذ قرون طويلة عززها مجيء المتوكل الذي فتح الباب على مصراعيه لأهل الأخبار والنقل، وحارب بذات الوقت التيارات الفكرية الأخرى؛ ثم تأصلت أكثر عندما نادى بعضهم بإقفال باب الاجتهاد، والتقوقع على مذاهب معينة، وحرموا الخروج عنها، ويكفينا أكبر شاهد على ذلك أن الدولة العثمانية حكمت بالمذهب الحنفي أكثر من خمسة قرون، ولم تخرّج علماء في العلوم الكونية، بل صارت هذه العلوم من فيزياء وكيمياء وأحياء ورياضيات تُسمى دنيوية، ويُنظر إليها نظرة دونية، بينما حفظ المتون وشروحها وتلخيصها صار هو العلم الذي يُنقذ الأمة من الجهل والتخلف والاستعمار والاستبداد، وبهذا قُلبت الأمور فوصلنا إلى ما وصلنا إليه؛ ثم بعد ذلك يتساءل البعض ما هو سبب تخلفنا وكيف تنهض الأمة؟

ولنا أن نسأل سؤالاً: لماذا توقف بعث النبيين في الناس من قِبل الله تعالى؟
أليس هذا دليلاً على أن الإنسانية قد وصلت إلى بدء سن الرشد، وأنها صارت قادرة على الاعتماد على نفسها في التشريع والمعرفة والاقتصاد و.. إلخ، من خلال الدين والتفكير والعلم والواقع وفقاً لمنهجٍ مقاصدي عاقبي، وما تم إنجازه في المائة عام الأخيرة خير دليل على ذلك.

أليس النص القرآني يقول: “ليدبروا آياته”، “لعلكم تعقلون”، “لقوم يتفكرون”، “وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير”، أليس أول أمر نزل في القرآن الكريم كما يقولون هو: “اقرأ”.

إن ثورة الاتصالات وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي مكنت كل فرد أن يبحث عن المعلومة بنفسه، ويعرف أن من حقه السؤال والحوار والتفكير، وأن العصمة لا تكون إلا للأنبياء في تبليغهم عن الله؛ مما ساهم في تقليل التبعية المطلقة، وساهم في بناء الوعي، وخاصة عند جيل الشباب الذي لم يتربَّ على ما تربى عليه الآباء والأجداد من تسليم مطلق لما يقال لهم، وهذه بوادر وبشائر خير في الأمة، وستؤتي ثمارها عاجلاً أم آجلاً، مما يُسهم في تقدم المجتمع ونهضته وازدهاره.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

حفظ النفس الإنسانية بين شذوذ الفقهاء ومحكم القرآن

غسان النبهان

10-09-2024

آراء الكتاب

الاختلاف في الوحي ليس من الله

غسان النبهان

20-09-2024

آراء الكتاب

حاكمية الإنسان وحاكمية الله

غسان النبهان

02-09-2024

آراء الكتاب

الفِرقة الناجية مَن تعمل صالحاً

غسان النبهان

14-09-2024

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

الرشد للذكور لا غير

رنا زكار

02-09-2024

آراء الكتاب

الثقافة التربصية!

احمد الرمح

02-09-2024

آراء الكتاب

الهزيمة الثقافية

احمد الرمح

02-09-2024

آراء الكتاب

مفهوم النقد الذاتي قرآنياً!

احمد الرمح

10-09-2024

ارسل بواسطة