تُعد الإسرائيليات من الأمور الخطيرة التي أصابت الثقافة العربية الإسلامية؛ فلم تسلم منها طائفة أو مذهب إسلامي؛ فقد غزا العهد القديم بنصوصه التاريخية والدينية والأبوكريفية كتب التاريخ والتفسير والحديث والفقه والسيرة، ولم يسلم منها كتاب، وقد تماهت هذه الإسرائيليات بنصوصها مع الثقافة الإسلامية بحيث صارت جزءاً لا يتجزأ منها، وصار نقد تلك الإسرائيليات أمراً بالغ الصعوبة ومسلكاً شائكاً بسبب الالتحام العضوي مع الثقافة الإسلامية، ولا شك بأن جهوداً كثيرة بُذلت في محاربتها، وأُلف في ذلك كتب، إلا أن ما تم بذله ونقده لم يمس سوى القشور فقط ووفق معايير تتعلق بالسند غالباً دون المتن.
ونقصد بمصطلح الإسرائيليات: كل دخيل على الدين من الثقافات الأخرى بمثل اليهودية والنصرانية والفارسية.. إلخ.
وإطلاق اسم الإسرائيليات عليها جميعاً من باب إطلاق الجزء على الكل، أو من باب التغليب، وإن كان المقصود بها ابتداءً ما دخل من روايات وأخبار ونحوها من الكتب القديمة لأهل الكتاب من يهود ونصارى.
والسؤال المهم هو كيف استطاعت الإسرائيليات أن تُهيمن على الثقافة الإسلامية وتطغى عليها؟
جواباً على هذا السؤال بعد استقراء لما كُتب نقول:
1- عند بعثة النبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام كانت الوثنية واليهودية والنصرانية شائعة في جزيرة العرب، مما يعني أن الإسلام ظهر على أرضية واسعة من الإسرائيليات التي رسخت جذورها قبله بقرون.
2- اعتناق كثير من أهل الكتاب وأحبارهم الإسلامَ في زمن النبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، بعضهم أسلم نفاقاً بقصد الكيد للإسلام. قال تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا أول النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون).
وبعضهم أسلم قناعة. قال تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) (المائدة: 83).
فإذا كان قصد التشويه حصل في زمن النبي الكريم محمد والوحي يتنزل عليه، فبعد وفاته كيف سيكون الأمر؟!
وحتى من أسلم عن قناعة ولم يقصد الكيد للإسلام أدخل ثقافته السابقة بغير قصد؛ عندما حاول أن يفسر بعض القصص الذي جاءت في القرآن بما يحمل من ثقافة دينية وتاريخية.
3- تتلمذ كثير من صغار الصحابة كعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم، على يد كبار الأحبار الذين أسلموا؛ مثل كعب الأحبار وعبد الله بن سلام ووهب بن منبه، وغيرهم، وهؤلاء الأحبار كانوا إحدى البوابات التي دخلت منها ثقافة أهل الكتاب.
4- التوسع خارج شبه الجزيرة العربية، ودخول مناطق جديدة تحت سلطان المسلمين مثل بلاد الشام والعراق ومصر.. إلخ، حيث كانت اليهودية والنصرانية منتشرة. مع وجود التسامح الديني والحرية الفكرية. وربما نقل العاصمة من المدينة المنورة، التي كانت تمثل مركز الإسلام الأول، إلى دمشق على يد الأمويين أضعف مركزيتها، وجعل التأثر بالثقافة المسيحية أكبر.
5- عدم وجود مرجع واحد محدد تنحصر فيه الأحاديث النبوية، وشيوع الرواية الشفهية، وكثرة الكذابين على لسان النبي الكريم محمد؛ سواء لهدف شخصي أو سياسي، أو كيداً للإسلام أو نصرة له، ساعد في انتشار الثقافات الأخرى الدخيلة تحت مسمى الحديث النبوي أو التفسير ونحوه، وعزز ذلك رواية منسوبة للنبي الكريم تقول: (حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، مما أعطى الشرعية لتداول تلك الروايات والأقاصيص الإسرائيلية، وأن تُكتب بجانب كتاب الله تعالى مفسرة لمضامينه، كما فعل الطبري على سبيل المثال في تفسيره وتاريخه؛ فخلّد الإسرائيليات في عقل ووجدان الأمة.
هذه أبرز الأسباب، مع وجود أسباب أخرى عديدة ساهمت في ترسيخ الثقافات الدخيلة في الثقافة الإسلامية.
إن النهضة والتنوير لا تكون فقط بنشر الفكر الإنساني الراشد الذي يبث القيم العليا في المجتمع والأمة؛ بل وتكون أيضاً بمحاربة الفساد والاستبداد، ومحاربة الأفكار المزيفة والمدمرة، بفضحها وبيان عوارها والتنبيه والتحذير منها؛ ليكون المجتمع على بصيرة من أمره، وليكون خيار الفرد خياراً مبنياً على وعي وعلم وتعقل، وليس تقليداً أو انسياقاً لمذهب أو اتجاه ما؛ فيكون حاله وحال مسلوب الإرادة سواء، وإذا ما أُريد لنا أن نعيد الوجه الإنساني العالمي للثقافة الإسلامية فلا بد من تفكيك البنى الثقافية الإسرائيلية، وتنقية التراث منها، سواء على مستوى التاريخ أو الفقه أو الحديث أو التفسير.