إن الأخلاق هي حال اجتماعية وليست فردية كما يتوهم بعضهم؛ لأنها تعبر عن تراكم إنساني أكدته التشريعات الدينية وغير الدينية جميعها، وجاء في الرواية عن النبي الكريم قوله: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وهي ليست بناءً فوقياً جاء نتيجة لبناء تحتي كما في الفكر الماركسي. وقد عرفها أرسطو فقال: الأخلاق وسط بين رذيلتين. فالكرم وسط بين البخل والإسراف. والشجاعة وسط بين التهور والجبن.
والإنسان كائن اجتماعي أخلاقي عاقل، ونسف الأخلاق والقيم العليا من المجتمع هو نسف للإنسانية ذاتها؛ فالأخلاق تقول: لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب، لا تزنِ، لا تغش، بر والديك، أوفِ بالعهد.. إلخ، والنفس بطبيعة تكوينها تحب العدل والحرية والكرم والشجاعة وتكره الظلم والاستعباد والاستبداد، فمن يقبل بهدم المنظومة الأخلاقية يقبل من حيث يدري أو لا يدري بأن يقتله الآخرون، أو يسرقوه، أو يكذبوا عليه، أو يظلموه، أو يستعبدوه.. إلخ.
وربّ قائل يقول إن بعض المجتمعات ولا سيما الغربية منها قد خرجت عن بعض القيم الإنسانية العالمية وصوتت عليها في برلماناتها وأقرتها وجعلتها حقاً لمواطنيها، بل ربما باركت بعض الكنائس ذلك، بمثل زواج المثليين، فنقول: إن إقرارهم لها لم يأتِ تشريعاً ابتداءً بقدر ما جاء تعبيراً عن ظاهرة فشت في المجتمع نتيجة للثقافة السائدة والتي تُعلي من الحرية الفردانية، فقاموا بتقنينها وتنظيمها، وعلى الرغم من هذا سيدفعون ثمن ما شرعوا في صحتهم بدايةً، وفي تفكك المجتمع وانهياره في نهاية الأمر.
فاتباع الشهوات الذاتية والاستغراق فيها يؤْذن بانهيار المجتمع، فما بالكم إذا كانت شهوات محرمة وتم الإسراف فيها، قال تعالى عن قوم لوط: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود) [هود: 82]
وقال عن الزنى: (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) [الإسراء: 32] فالقرآن يحذر من النهاية السيئة سواء على مستوى الفرد أو المجتمع.
ويوجد خطاب ديني سائد يقلل من أهمية الأخلاق ويجعلها بعد الشعائر، وهذا خطاب منتكس مقلوب؛ لأنه يقدم العبادة الروحية الشخصية ويجعلها أساساً ويقايس الناس من خلالها؛ بل يصل عند بعضهم تكفير من لا يؤديها.
وهذه الشعائر نفعها يعود على الفرد نفسه لا يتعداه إلى غيره بخلاف القيم الأخلاقية والعمل الاجتماعي، والتي نفعها يعم المجتمع كله. ومآلات هذا الخطاب المقلوب أنه يجعل من مجرم مستبد قاتل ينطق بالشهادتين قبل موته بلحظات بطلاً وشهيداً، متناسياً الدماء والدمار والويلات التي خلفها وراءه، وكذلك يجعل الغش أو الكذب أمراً مألوفاً (مع استنكارهم له طبعاً)، بينما إفطار يوم في رمضان جريمة كبيرة، وإذا لم تغطِّ المرأة شعر رأسها فقد ارتكبت جرماً عظيماً، بينما إذا كذبت أو لم تتعلم أو لم تحسن تربية أبنائها فهذا أمر مألوف لا يثير حفيظة أهل هذا الخطاب، وهكذا تم اغتيال الأخلاق بصورة أو بأخرى باسم شعائر الدين، مع أن الأخلاق يجب أن تكون ثمرة من ثمار التدين وملازمة له.
وللأخلاق بصورة عامة جانبان: جانب ثابت وآخر متغير، ولعل الخلط بينهما يؤدي إلى القول بنسبيتها كما نسمع من بعض المثقفين:
أولاً: الجانب الثابت:
وهو الذي يمثل ميثاقاً إنسانياً عالمياً لا يجوز المساس به أبداً، مثاله (القتل والسرقة والكذب والغش)، وإلا تحول الشخص من إنسان أخلاقي إلى وحش ومجرم. والقول بنسبية هذا الجانب هو تبرير للآخر أن يمارسه بحقك علمت ذلك أم لم تعلم.
ثانياً: الجانب المتغير:
وهو نسبي يتغير بتغير الزمان والمكان والثقافة، مثاله (أعراف وعادات اللباس والطعام والكلام.. إلخ)، وهذا يتجلى بمفهوم العيب عند الناس. وهو يختلف ما بين مكان وآخر، وما بين طبقة وأخرى. فالريف له عاداته ولباسه ونمط حياته الذي تراكم وتوافق عليه أهله. وكذلك أهل المدينة لهم نمطهم الذي تشكل عبر الزمن. وكذا الطبقات الاجتماعية وما يحكمها يختلف باختلاف الطبقة؛ فالطبقة العليا تختلف عن الطبقة الدنيا وتختلف عن الوسطى.
إن المنظومة الأخلاقية هي ضمير المجتمع، وكلما كانت الأخلاق الراقية سائدة في المجتمع كان ذلك دليلاً على صحة المجتمع وتماسكه؛ فالأخلاق فوق التصويت، ولا مجال فيها للرأي والرأي الآخر، وأي مساس بالمنظومة الأخلاقية هو مساس بكينونة المجتمع ذاته وإيذان بانهياره.