لكل دعوة هدف ما، تعمل من أجله، يكون واضحاً للقريب والبعيد من خلال خطابها واستراتيجيتها، والتيار التنويري كذلك له هدف ديني إنساني واضح من خلال خطابه وسلوكه.
وبالتالي فنحن كتيار تنويري لا يعنينا الخلاف الحاد حول عالم الغيب الذي تصارع ويتصارع حوله السابقون واللاحقون، مثل الصراع حول كيف هو الله ﷻ؟ وأين الله ﷻ؟ وهل نرى الله ﷻ يوم القيامة؟ والأسماء والصفات؟.. إلخ؛ فهذه قضايا لا تُنقذ مظلوماً؟ ولا تُطعم جائعاً؟ ولا تنهي أزمة البطالة التي يعاني منها أبناؤنا، ولا تحل مشكلة السكن؟ ولا تخلصنا من الاستبداد، ولا تحقق التنمية. وحتى لو عرفنا كُنْه هذه القضايا الغيبية، فلن تخرجنا معرفتُها من تصنيفنا كدول متقهقرة ومتخلفة، يُقال عنها دبلوماسياً دول العالم الثالث.
ولهذا ما يعنينا هو عالم الشهادة الذي نعيشه، لا عالم الغيب! وعالم الشهادة نقصد به المعاصرة، وهو عالم لم يعاصره الأولون من السلف والمتمثل بحقوق الإنسان كيف نحققها لأنها مقصد قرآني إنساني، والحرية كونها مقدمة حتى على الإيمان؟ وثقافة ومؤسسات المجتمع المدني التي تنظم المجتمع، وتحافظ على حقوق أبنائه، كيف نؤسسها؟ وكيف نمارس الديمقراطية بعيداً عن العنف؟ وما هي نظرتنا للآخر الذي يعيش معنا في وطن واحد؟ وما حقوقه؟ وكذلك الآخر البعيد عنا وتجمعنا معه صفة الآدمية والإيمان والمحافظة على السلم العالمي؟ وكيف نؤسس لثقافة التشاركية العالمية، وننبذ ثقافة القطيعة مع الآخر التي جذَّرها في العقل المسلم سدنة الدين الموازي؟ ونُبعد رجال الدين عن البحث العلمي والاقتصادي والسياسي؛ فلا ننتظر مباركتهم ولا تعميدهم له! فهذا ميدان ليس ميدانهم وله فرسانه الأكفاء.
وأما القراءة الخاصة للإسلام التي قدمها مفكرون وشيوخ إسلاميون ينتمون إلى مراحل تاريخية سابقة، فإنها قراءة مشروطة بواقعها وعصرها، ولذلك كانت أدواتهم المعرفية تنتمي إلى زمانهم لا زماننا، فزمانهم يمتاز بدرجة تطور محدودة، متأخرة جداً عن زماننا! ولذلك فهي غير صالحة لقراءة الحاضر والمستقبل، ويمكن اعتبار قراءاتهم راهنية زمنها، أي ابنة شرعية لواقعهم الراهن آنذاك. وهذا يجعلنا نميز كما يقول "فوكو" بين الراهن والحاضر، إن الجديد والمهم هو الراهن، فلا يتجدد الراهن بما نحن عليه، وإنما بما نصيّره، أو نحن بصدد صيرورته أي الآخر. أما الحاضر فهو على عكس ذلك، نحن بصدد تجاوزه.
كما نُرسِّم كتيار تنويري الحدود بدقة بين الديني والدنيوي، فترسيمها بوضوح هو السبيل لنهضة مجتمع متعدد المكونات، فملأ منطقة الفراغ في الشريعة الإسلامية ليس مهمة الفقيه اليوم، كما كان دوره بالأمس! إنما هي المنطقة التي لم يتدخل الشارع سبحانه وتعالى فيها، وأوكل مهمة تنظيمها للبشر، بما لا يتعارض مع المحرمات الإلهية.
إنّ التنوير المنشود يطالب العقل الديني بالعمل من أجل ثلاث قضايا أساسية لتحقيقها، هي الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية لأبناء المجتمع جميعهم مهما كان انتماؤهم الأيديولوجي؛ إذ إنّ القضايا الثلاث هي السبب في كل ثورة قامت أو حركة إصلاح نشأت، ولو استعرضنا تاريخياً كل دعوة للإصلاح أو كل ثورة قامت، لتبين لنا أنّ الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، كانت السبب الباعث لها.
ويُعدُّ المؤرخ الإنكليزي "آرنولد تونبي" من أهم المؤرخين المعاصرين الذين تطرَّقوا لذلك؛ ففي موسوعته المعنونة "دراسة تاريخ الحضارات" أشار إلى مسألة تتعلق بالتحدي والاستجابة التي تواجه الحضارات! حيث يوضح أن الشعوب الحيّة هي التي تستجيب للتحدي بإيجابية؛ أي إنها تقبل التحدي وتعترف به، ثم تحاول التغلب عليه، أما الاستجابة السلبية للتحدي تكون بالنكوص والرجوع إلى الماضي لاستعادته والتمسك به؛ تعويضاً عن واقعهم المرير!
بإسقاط هذه النظرية على الواقع الإسلامي، علينا أن نعترف بالتحدي الجديد المتعلق بالحداثة والمعاصرة ومشكلاتها التي تواجه الناشئة من أبنائنا، وعجز التراث عن حل هذه المشكلات، وعدم جدوى "الترقيعات" التي يقوم بها كهنة الدين الموازي ودعاة الإسلام السياسي؛ فهؤلاء يدعوننا للنكوص نحو الماضي بطريقة استلابية تجعلنا خارج النسق العالمي الحضاري.
مما سبق كله، لا بد من بيان السمات العامة للحركة التنويرية التي نعمل بها وندعو إليها حتى يتوقف الاحتراب الطائفي والمذهبي والديني والقومي الذي جعل المجتمع يأكل نفسه ويتآكل؛ فتوقفت التنمية، وانتهى الإبداع، وتخلفنا حتى غدونا مشكلة للمجتمع البشري وعالة عليه!
وأولى تلك السمات التي يجب على التيار التنويري العمل من أجلها، تتمثل بالهدف والمقصد الإنساني من خلال الحراك التنويري، وكذلك كانت دعوة كل الأنبياء والرسل عليهم السلام، فقد كانت دعوتهم لخلاص الإنسان مما يعاني، ويستلب إنسانيته، فقدموا رسالتهم كحالة خلاص ديني، دنيوي وأخروي.
إذن، العمل من أجل الإنسان والمجتمع بكل ما فيه من انتماءات اختارها الناس، هو الهدف الرئيس من التنوير؛ فالدعوة التنويرية إنْ لم تكن دعوة إنسانية، فهي ليست تنويرية، ولا تسير على خُطى الأنبياء والرسل؛ وبالتالي ستنحرف عن منهج الله الحنيف.