للتعايش الإنساني شروطه المعاصرة، تفرضها مبادئ المواطنة وثقافة العيش المشترك، ولا يمكن تجاهلها لأسباب تاريخية؛ ففي عصرنا الحالي غدت المجتمعات الكبيرة تعيش تحت ظل ما يُسمى اليوم بدولة المواطنة. والإسلام يحترم الوطنية والمواطنة؛ إلا أنّ هناك مصطلحات فقهية ربما كانت صالحة لعصر مضى، لكنها في ظل الدولة الوطنية لم تعد كذلك؛ ومن هذه المصطلحات مصطلح (أهل الذِّمّة) الذي أصبح يشكل حرجاً لغير المسلمين بمجتمعاتنا، ومصطلح أهل الذمة يُفَسر على أن هؤلاء المواطنين غير المسلمين مواطنون من الدرجة الثانية؛ رغم أنه في المقصد القرآني ليس كذلك.
مصطلح أهل الذمة ظهر إثر تراكمات تاريخية وأخطاء من الطرفين (مسلمين وغير مسلمين)، لا مجال لفتحها الآن؛ أدت إلى وجود أزمة ثقة بينهما وعلى العقلاء اليوم من الطرفين بدء العمل على طمر وتجاوز تلك الخلافات التاريخية؛ إنْ كنا جادين فعلاً في بناء مجتمع متطور ومتحضر؛ يملك أسس حوار الثقافات، وثقافة الحوار، ومقومات نهضة جديدة، وإذا كان للخبثاء دور في إذكاء مثل هذه الأزمة بين الفريقين، فإن المتطرفين من كلا الفريقين يساهمون في إطالة عمر هذه الأزمة، وبالتالي يخلقون عقبة جديدة تؤخر نهوض المجتمع وتطوره؛ وعلى الوطنيين من الطرفين قطع السبل كلها عليهم.
ولقد أكد الفقهاء القدامى أن أهل الذمة يتمتعون بأهلية الدار؛ ومعنى أهلية الدار هو المواطنة بالتعبير الحديث. ولقد تجاوز عمر بن الخطاب مصطلحاً قرآنياً أهم من أهل الذمة، عندما حذف كلمة الجزية -المذكورة في القرآن- حينما شكا إليه بنو تغلب، وكانوا (نصارى) قائلين: يا أمير المؤمنين، نحن قوم عرب، ونأنف من كلمة الجزية، فخذ منا ما شئت باسم الصدقة. فاستجاب لهم عمر.
وبما أنّ الإسلام يقوم على العدل؛ ويدعو إليه، ويجعله مقصداً من مقاصده، وبما أن دولة المواطنة تدعو إلى المساواة بين مواطنيها في الحقوق والواجبات؛ وهذا لا يعارضه الإسلام الحنيف إطلاقاً، فليس هناك مانع شرعي من إلغاء مصطلح أهل الذمة واستبداله بمصطلح المواطنة، وبالتالي فإن غير المسلمين، في الدولة الوطنية، مواطنون لا ذميون؛ واعتماداً على القاعدة في أصول الفقه (لا مشاحة في الاصطلاح) فإننا بتغيير هذا المصطلح نتخلص من عقبة تقف حائلاً أمام نهضة المجتمع وتطوره، وتَصْرفنا عن حركة التنمية والنهضة والتطور.
لقد فتح لنا القرآن أبواباً كثيرة للحوار والتعايش والتحالف وحتى المصاهرة مع غير المسلمين؛ لكننا نتيجة ابتعادنا عن الفقه القرآني، وبتسلط فقهاء التقليد؛ تسللت إلينا (فيروسات) جعلتنا نعتقد أننا أفضل من الآخرين مهما فعلنا من سوء، وبالتالي فإن لدينا تفويضاً بالوصاية على الآخرين ما قال به القرآن ولا نبيه الكريم.
ولا بد لنا من إعادة فتح هذه الأبواب التي أغلقت من قبل أصحاب عقلية إلغاء الآخر من أجل انبعاث حالة تعايش جديدة؛ تعيد إحياء المقصد الإنساني الذي جعله القرآن من أهم محاوره؛ وترفع عن الإسلام خطأ ما لحق به، وهذا يجعلنا أكثر اقتراباً من الطرح القرآني الذي يؤكد أن هناك آخرين لهم الحق في العيش المشترك، مع البقاء على اعتقادهم أياً كان؛ حيث إن حقوق الإنسان في الإسلام ليست اجتهاداً فقهياً، إنما هي حق قرره الله في قرآنه. وهذا يعني أن ممارسة الآخرين لحقوقهم وحرياتهم ليس مِنَّة نتفضل بها عليهم؛ إنما هي حقوق منحهم إياها رب العالمين في كتابه الكريم.
وانطلاقاً من المبدأ القرآني القائل (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) البقرة: 256.
وهو مبدأ يقرُّ ويعترف بحرية التدين والإيمان، والمبدأ الآخر الذي يُعْتَبر عمود السلوك الإيماني المتمثل بقوله تعالى (وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المائدة:87.
فالمبدأ الأول يمثل رؤية القرآن في حق الاعتقاد، والثاني يؤسس بشكل لا لبس فيه للعدالة في مسألة التعامل مع الآخر. وبما أننا مواطنون جميعاً في وطن واحد. فإن هناك أموراً يجب مراعاتها وعدم الخروج عليها، وهي:
• السقف الذي يعمل فيه الجميع هو الوطن.
• أبناء الوطن متساوون جميعاً في الحقوق والواجبات.
• لا يحق لأي طائفة أو جماعة أو فرقة أو حزب الاستفراد بالقرار الوطني تحت أي ذريعة.
• الوطن لكل مواطنيه؛ فلا يحق لأحد تقسيمه على أساس طائفي أو عرقي أو قومي.
• لا يحق لجماعة مصادرة الوطن والوطنية بذريعة الأكثرية، أو لكونها استلمت السلطة فيه؛ بل إن ثقافة التشاركية والعيش المشترك هي الثقافة والاستراتيجية التي يجب على الجميع الإيمان بها.
وبذا نحقق خطوة مهمة تجاه الأمان والاطمئنان لكل المواطنين؛ مهما كان انتماؤهم الاعتقادي، ليتساوى المواطنون بالحقوق والواجبات؛ وتبدأ عملية التحرر والنهضة والتقدم.