ثقافات قرآنية مُغَيّبة!

02-09-2024

هناك جملة من الثقافات التي دعا إليها القرآن الكريم، وطالب المؤمنين به أن يتحلوا بها؛ ليكونوا شامةً بين الناس بأخلاقهم وسلوكهم الإنساني، ومن هذه الثقافات القرآنية أنّ الناس كلهم أخوة؛ ولقد بتنا ننظر إلى الآخر من خلال موروث شعبي عنصري طائفي، وليس من خلال ما دعانا إليه الوحي! فالقرآن يرفض النظرة العنصرية تجاه الآخرين، أياً كان انتماؤهم الديني، أو العرقي، أو الجغرافي؛ ويؤكد أن البشر من أصل واحد، ومكرمون جميعاً، فيقول تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. النساء: 1.

وأما من حيث التكريم فإن الله ﷻ يؤكد أن التكريم الإلهي شمل كل بني آدم على اختلاف ألوانهم وجنسياتهم وأديانهم فيقول:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً. الإسراء: 70.

من خلال ذلك يتبين لنا أن دعوة القرآن تجاه الآخر هي دعوة أخوية أخلاقية إنسانية، ما لم يكن الآخر فاسداً مفسداً، لأننا كلنا لآدم كما أكد رسولنا الكريم، والأخلاق قرآنياً ذات أثر متعدٍ؛ فمن غير المقبول أن تكون أخلاقياً مع نفسك ولا أخلاقياً مع الآخرين، بل إن القرآن يأمرك أن تكون أخلاقياً مع كل شيء في هذا الكون، مع نفسك ومع أخيك الإنسان ومع الحيوان ومع الأرض، فالقرآن يقول لك: إن صلاحك لا يكتمل إلا إذا امتدَّ لينتفع به الآخرون، وهكذا كانت دعوة القرآن في الأخلاق؛ إذ أمر الناس جميعاً أن يحتفظوا بأخلاقيات الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

والقرآن في مقصده الأعلى دعوة لاحترام وتكريم الإنسان في كل مراحله العمرية، كما أن كرامة الإنسان هدف له احترامه في القيم الإسلامية؛ فالقرآن الكريم إنساني النزعة، فهو إما حوار مع الإنسان، أو حديث عن الإنسان، ولو تدبرت أوامر ونواهي القرآن ستجدها تحفظ الإنسان من السقوط في دركات البهيمية؛ لتبقيه مكرّماً مميزاً عن باقي المخلوقات الأخرى، كما طرح القرآن تكريم الإنسان ابتداءً دون النظر إلى اعتقاده أو لونه أو قوميته، حيث قال تعالى:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً. الإسراء: 70.

هذا التكريم أيده القرآن بعطاء؛ لم يفرق بين مسلم وغير مسلم وكان من خلال منحٍ ربانية للجميع كالعقل والقدرة على الاختيار وتسخير الكون له وحرمة دمه، ولقد قدم مسلمو عصر الرسالة حضارتهم على أساس إنساني، ولم يقدموها على أساس عنصري أو للعرب فقط؛ أو للمسلمين فقط، بل قدموها على أساس حضاري إنساني يريد الخير لكل البشر دون تميز.

وحماية الإنسان والإبقاء عليه مكرماً محترماً من أهم أهداف القرآن؛ فقد شن حملة كبيرة على فرعون لا هوادة فيها، لأنه في طغيانه أذلَّ الكرامة الإنسانية، وقام بعملية مسخ منظمة لها، وذلك من خلال قهر الإنسان على معتقد لم يقتنع به، ألا وهو إخضاع الإنسان لمساوٍ له؛ لذلك اعتبر القرآن فرعون أسوأ مثال استبدادي عرفته البشرية لأنه صادَر حرية الإنسان واختياره. فالقرآن ذو دعوة إنسانية المقاصد؛ يرفض الإكراه على المعتقد حتى لو كان صحيحاً، وصرخ القرآن بذلك قائلاً: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. البقرة: 226.

والقرآن يقرر مسألة مهمة في موضوع الإنسانية، وهي المساواة؛ إذ يقرر أن الناس جميعاً في الدنيا سواء، لهم حقوق وعليهم واجبات، أما حسابات العقيدة والإيمان فهي أمور عائدة إلى لله.

كما أن القرآن يرفض تحميل إنسان خطأ إنسان آخر، مهما كان هذا الخطأ، فكل فرد يتحمل خطأه، ولا ينسحب ذلك الخطأ على الآخر، حتى لا يُظلم الآخر، وليأخذ البريء فرصته كاملة في الحقوق الإنسانية، فجاءت أهم قاعدة إنسانية في الإسلام متمثلةً بقوله تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) هذا المبدأ العظيم ذو البعد الإنساني الكبير، لم يأتِ عبثاً في القرآن، بل تكرر خمس مرات في القرآن في سور: (الأنعام: الآية 162) و(الإسراء: 15) و(فاطر: 18) و(الزمر: 7) و(النجم: 37) ليؤكد هذا البعد الإنساني.

إننا نمارس في كثير من الأحيان مع الآخر سلوكاً لا إسلامياً؛ فعندما لا نعترف بقيمة الآخر العلمية والإبداعية وأحياناً كثيرة لا نعترف بقيمته الإنسانية التي كرمه الله على أساسها؛ ولا ننصفه فيما قدم للبشرية من إبداع يسر للجميع حياتهم مسلمين وغير مسلمين، فإننا نظلمه، وهذه سلوكية مرفوضة قرآنياً؛ حيث يدعو إلى العدل مع الآخر مهما كانت طبيعة العلاقة معه؛ فيأمرنا قائلاً:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. المائدة: 8.

وبالعودة إلى تلك الثقافات القرآنية المغيَّبة، نعيد إحياء الثقافة الإنسانية في فكرنا وسلوكنا عندما نتعامل مع الآخر، وندعو إلى احترام هذه الإنسانية؛ ما دام الإنسان لم يسعَ في الأرض فساداً. وبتلك الثقافات القرآنية نستطيع أن نفتح قنوات كثيرة للدعوة مع الآخرين؛ أغلقناها ببعدنا عن مقاصد القرآن.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

الثقافة التربصية!

احمد الرمح

02-09-2024

آراء الكتاب

الهزيمة الثقافية

احمد الرمح

02-09-2024

آراء الكتاب

مفهوم النقد الذاتي قرآنياً!

احمد الرمح

10-09-2024

آراء الكتاب

كيف نقدم الإسلام اليوم؟

احمد الرمح

19-09-2024

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

الرشد للذكور لا غير

رنا زكار

02-09-2024

آراء الكتاب

العشاء الأخير

سامر إسلامبولي

02-09-2024

آراء الكتاب

فكر عابر للقارات

رنا زكار

02-09-2024

آراء الكتاب

كونشرتو طالبان

رنا زكار

02-09-2024

ارسل بواسطة