الحوار فريضة قرآنية وقاعدة أصيلة في التعامل بين المختلفين، سواء كانوا ضمن الدائرة الإسلامية أو خارجها؛ وكل ما هو سوى الحوار إنما يُعد قرآنياً استثناءً من القاعدة، وشذوذاً عنها لا يباح إلا في حدود ضيقة جداً.
إن القرآن الكريم يقرر ثقافة الحوار، ويقدم مئات الآيات القرآنية التي تطرحه كمبدأ، وتقرره كوسيلة للتعامل في المجتمع الإنساني؛ لذلك وجدنا أن الله ﷻ يطرحه كوسيلة للمعرفة والابتعاد عن سوء الفهم في أول سورة من سوره؛ ففي سورة البقرة وببداياتها يغرس فينا الحوار كقيمة إنسانية عند متدبر القرآن من خلال الحوار الذي دار بين الله والملائكة عند خلق آدم، ورغم أن الملائكة ليس لديهم حق الاعتراض أو حتى الاستفسار، فإن الله ثبَّت ذلك الحوار في قرآنه ليعلمنا ثقافته، ومناقشة أي أمر دون تسليم به، حتى ولو جاء من الأعلى.
كما امتلأت سور القرآن بالحوار الدائر ما بين الله ﷻ والمتمرد الأكبر إبليس؛ ورغم الإجماع على خطيئة إبليس وتمرده، فإن الله أقرَّ ذلك الحوار والاعتراض الإبليسي في قرآنه ومنحه فرصة امتدت إلى نهاية الحياة:
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ. قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ. قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ. قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ. الأعراف: 11–15.
وكلما قدم القرآن لنا تجربة رسول من الرسل الكرام، ذكّرنا بالحوار الذي دار بين ذلك الرسول وقومه، وهذا إنْ دل على شيء إنما يدل على أن الحوار أصل من أصول الإسلام، وكل من يرفضه إنما يرفض أصلاً عظيماً من أصول الإسلام، ويسيء إلى هذا الدين العظيم، ويتجاهل أسلوباً أقره القرآن.
وها هو القرآن الكريم يقدم لنا مثالاً حوارياً في سورة الكهف بين رجلين؛ الأول آمن بنعمة الله، والآخر كفر بها، فيحرص المؤمن على إعادة الكافر بنعمة الله إلى جادة الصواب من خلال الحوار:
قَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا. وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا. لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا. وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا. فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا. الكهف: 34/40.
بل إن القرآن الكريم طرح الحوار مع الآخر دون إلزامه بأن ما نطرحه هو الصواب عينه؛ وذلك من خلال حوار عظيم جاء في القرآن:
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ. قُل لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. سبأ: 24/25.
وأما دعوة الحوار في القرآن فهي موجهة إلى فريقين:
الأول دائرة المؤمنين:
حيث يطالبهم القرآن بحل مشاكلهم وخلافاتهم في وجهات النظر بالحوار أولاً وأخيراً، ويحذرهم من تجاوزه؛ لأن تجاوز تلك الثقافة سيستدعي العصبيات المذمومة كلها، وهذا ما يزيد إشعال نار الاختلاف، ويفسح لأبالسة الإنس بأخذ دورهم في تحويل الخلاف بالرأي إلى معارك، قد تذهب ضحيتها أرواح ودماء. لذلك جاءت آيات كثيرة تدعو إلى الحوار كوسيلة أساسية ووحيدة لحل الاختلافات، وتحذر من مآل طمس ثقافة الحوار، كقوله تعالى:
وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. الأنفال: 46.
الثاني دائرة غير المؤمنين:
ينبه القرآن إلى أن الحوار مع الآخر يجب أن يكون في دائرة المشترك بداية؛ وبتلك الوسيلة نستطيع أن نؤلف قلبه، ولا نستعديه، من ذلك التوجيه القرآني:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. آل عمران: 64.
أما عندما يرفض الآخر دعوتنا ولا يقبل بها دون أن يعتدي علينا أو يستعمر بلادنا، أو يغتصب جزءاً منها؛ فإن قاعدتنا في التعامل معه هي القاعدة القرآنية التي تقول (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
فالآخر يحق له رفض دعوتك؛ رغم كونها الحق فإن الله منحه هذا الحق، ولا سلطة لنا على من يرفض لقوله تعالى:
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر. الكهف: 29.
إذاً يبقى الحوار مع الآخر الوسيلة الوحيدة للتعايش والتواصل والتفاهم والتعاون الإنساني؛ ما لم يعتدِ بالقوة على الدين أو الوطن، عندئذ اللسان باللسان والسنان بالسنان. فلماذا تناسينا فريضة الحوار القرآنية؟