التطرف البشري والتسامح الحيواني!

02-09-2024

التطرف نوع من أنواع السلوك البشري، غير عاقل، ولا إنساني؛ لا يقتصر على المتدينين تحديداً، إنما هناك التطرف الحزبي والقومي والرياضي.. إلخ، وبالتالي للتطرف أسباب مختلفة؛ منها السياسية والطائفية والتربوية، تؤثِّر في الإنسان؛ ليجنحَ نحو التطرف حتى يغدو عنيفاً، لا يقبل المخالفَ له؛ مهما كانت صلةُ قرابته. إذاً التطرف لا يتعلق بالدين فقط، ولكنَّ التطرف الديني في شرقنا البائس يبقى اليوم أكثر أنواع التطرف الذي يُسلط عليه الأضواء.

والمشكلة بالتطرف الديني أنه يسلب المتطرفَ إنسانيتَه وأخلاقَه، ويجعلُه مسيئاً لما يحمل من تَدَيّنٍ. وسأروي لكم قصة في التطرف؛ حدثت بسوريا رواها لي صديق كان معتقلاً بسجن صيدنايا في سوريا؛ القصة طويلة سأختصرها:
في صيف ٢٠٠٣ جاء إلى مهجعنا المعتقلين فيه جماعةُ “أبو القاسم الزبداني”؛ وهم (٢٤) شخصاً، يتزعمهم شخص يُكنى “أبو القاسم” وجميعهم من الزبداني؛ أطلقوا على أنفسهم (جماعة الأمة) دخل وقت صلاة المغرب، فوقفتُ إماماً بهم كالعادة، فالتحق بنا الجميع إلا اثنين، رفضا الصلاة معنا، بعد أن انتهينا من الصلاة، قام أحدهما وأذن للصلاة، بمعنى أنهما لم يعترفا بصلاتنا. سألتُ أحدَ أعضاء جماعة الأمة عن سبب اعتقالهم؟ فقال: إن أمير الجماعة أبا القاسم كان رجلاً وحيداً لأمه، وكانا يسكنان وحدهما في البيت، توفيت أمه، فأخبر أصدقاءه بموتها؛ وهو محتار ما الذي يفعله بأمه الميتة، فهي بالنسبة له ولجماعته كافرة، لا يجوز تغسيلها، ولا تكفينها؛ ولا الصلاة عليها، ولا دفنها! كانت أمه التي أفنت حياتها عليه، عابدةً صائمة صالحة. لكن أبا القاسم كان يكفرها لأنها لم تدخل في جماعته، فمن لم يبايعه فهو كافر! ولو كان أقرب المقربين له! وبذا يطبقون المبدأ المزعوم الولاء والبراء.

ترك أمه ميتة، وكان الجو حاراً وبقيت الجثة أياماً؛ حتى خرجت روائح من البيت، فقام الجيران بطرق الباب، ثم كسروه؛ ليجدوا المرأة ميتة، فاتصلوا بأبي القاسم هاتفياً. فقال لهم: نعم أعلم بموتها. قالوا له: لماذا لم تغسلها؟ قال: هي كافرة! ولا يجوز دفنها! فقام الجيران بمراسيم التغسيل والصلاة والدفن.

انتشرت القصة حتى وصلت إلى الجهات الأمنية. فاستدعوه؛ وسألوه لماذا هي كافرة؟ قال لهم: لأنها لم تدخل جماعتي، ولم تبايعني. فقالوا له: وما حكمنا نحن عندك؟ قال: كفار. فقالوا له: والسيد الرئيس. قال: كافر.

بدأ التحقيق والضغط؛ حتى اعترف “أبو القاسم” على “جماعة الأمة” الـ ٢٤ شخصاً كلها.
هل تخيلتم إلى أين يصل بنا التطرف؟ أمُّه التي أفنت عمرَها من أجله، وهو وحيدها؛ يكفرها؛ ويرفض أن يدفنَها! لذلك قلنا: إن التطرف يسلخ الإنسان من إنسانيته؛ ويسيء لدينه؛ ويجعله عاقاً لوالديه.

هل تعلم أيها الإنسان أن بعض الحيوانات تتسامح عند الشدة والخطر؛ فالفيل من الحيوانات التي تدفن موتاها؛ ولا تتركها تتحلل! بل إن علماء الحيوان بالتجربة والمشاهدة؛ وجدوا أن الفيلة تدفن مواتها، وتدفن أي حيوان تجده نافقاً. وكذلك الشمبانزي يدفن موتاه، ومن الطيور التي تدفن مواتها الغراب حيث يقيم له عزاء، كما جاء في القرآن الكريم؛ وأكده علماء الحيوان. أما المتطرف “أبو القاسم” فقد رفض دفنَ أمه التي أفنت عمرَها من أجله؛ ورفضت الزواج لتربيته.

إننا كبشر نحتاج إلى التسامح الحيواني! فمنذ سنوات عندما شبت حرائق بغابات كينيا؛ خرجت الحيوانات من الغابة، فالتقط أحد مصوري الحدث صورة لبؤة، تحمل شبلها؛ هاربة من الحريق؛ حتى تعبت؛ وكان بجوارها فيل، فساعدها الفيل، وحمل ابنها عنها؛ ليخفف عنها. حتى وصلوا إلى بر الأمان.

نحتاج إلى التسامح الحيواني؛ كي نخرج من كوارث التطرف؛ بل إن التطرف الديني قد يؤدي للكفر، ففي العشرية السوداء بالتسعينيات بالجزائر، لما انهزمت الجماعة الإسلامية، انشقت جماعة عنها؛ وأطلقت على نفسها اسم “الغاضبون على الله” وقطعوا إصبع السبابة؛ حتى لا يتشهدوا عند الموت! لاعتقادهم بأنَّ الله خذلهم أمام الجيش الجزائري (الكافر) بحسب زعمهم؛ لذلك قلنا قد يؤدي التطرف إلى الكفر!

الإيمان يرفض الإفراط والتفريط. والقرآن الكريم ذم التطرف والتشدد؛ ووبخ حامله، فقال:
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) هود:112.
ووصف القرآن التطرف بالطغيان المؤدي إلى غضب الله فقال:
(وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) طه:81.

وسمّاه القرآن في موقع آخر بغياً:
(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل:90.
وللأسف فإن ظاهرة التطرف تنتشر بين الشباب؛ فانتبهوا إلى أولادكم قبل أن يسيئوا إليكم وإلى دينكم وإلى وطنكم.
يقول “مارتن لوثر كينج” الثائر ضد التمييز العنصري في القرن الماضي رافضاً التطرف:
لقد تعلمنا أن نسبح في البحار كالأسماك؛ وأن نطير في الجو كالطيور؛ ولكن لم نتعلم كيف نمشي على الأرض كالأخوة.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

الثقافة التربصية!

احمد الرمح

02-09-2024

آراء الكتاب

الهزيمة الثقافية

احمد الرمح

02-09-2024

آراء الكتاب

مفهوم النقد الذاتي قرآنياً!

احمد الرمح

10-09-2024

آراء الكتاب

كيف نقدم الإسلام اليوم؟

احمد الرمح

19-09-2024

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

الرشد للذكور لا غير

رنا زكار

02-09-2024

آراء الكتاب

العشاء الأخير

سامر إسلامبولي

02-09-2024

آراء الكتاب

فكر عابر للقارات

رنا زكار

02-09-2024

آراء الكتاب

كونشرتو طالبان

رنا زكار

02-09-2024

ارسل بواسطة