تنازع الرؤى:

هل يمكن المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث؟

مركز حوار الثقافات

01-09-2024

تسعى بعض الآراء والاتجاهات التي تتبنَّى تجديد الفكر الديني في الإسلام، إلى تقديم رؤى مختلفة حول تقسيم الميراث، مناهضة للرؤى الفقهية السائدة منذ قرون في التاريخ الإسلامي، على اعتبار أن الآراء الفقهية تتصل في قواعدها ببنية المجتمعات التي ظهرت فيها، بما لا يتناسب مع التحولات التي شهدتها المجتمعات المعاصرة.

ورغم محورية مسألة المساواة بين الرجل والمرأة عند تقسيم الميراث في أطروحات التيار “التجديدي”، فإنها تتجاوز هذه الجزئية إلى تبنِّي قراءة جديدة للنصوص القرآنية مناسِبة للعصر الحالي، وإلغاء القواعد الفقهية في تقسيم الميراث، وتحديداً “التوريث بالتعصيب والرد والرحم”، وإتاحة المجال للتجديد الفقهي.

قواعد فقهية

رغم أن مسألة “الميراث” وقواعدها الحاكمة تُعَد من القضايا الشائكة، في ضوء تعدُّد الحالات، وكيفية تقسيم النِّسب من التركة للمستحقين، فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من القواعد الفقهية الرئيسية بشأن “الميراث”، وأبرزها ما يلي:

1- أولوية تطبيق أحكام الميراث عن الوصية: تتفق المدونة الفقهية على قاعدة أنه “لا وصية لوارث”، استناداً إلى حديث الرسول محمد ﷺ: “إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث”. والمقصود أنه لا يجوز إعمال الوصية ما دامت تُخالِف ما تُعرَف بـ”الفرائض” عند تطبيق أحكام الميراث، وهي تلك التي جاءت في القرآن الكريم.

وبرز خلاف حول تفعيل الوصية إذا جاءت مخالفة لـ”الفرائض” في الميراث، وتذهب بعض الآراء الفقهية إلى بطلانها؛ لأنها تخالف ما جاء في القرآن الكريم، ولكن اتجهت بعض الآراء إلى جواز تنفيذها حتى مع مُخالَفة “الفرائض” بشرط اتفاق جميع المستحقين للإرث.

وتذهب بعض الآراء الفقهية إلى أن الوصية تقتصر على ما يتركه المتوفى في غير “الفرائض” فقط، كأن يُوجِّه جزءاً من التركة إلى دور الأيتام أو المحتاجين، ولكن هذا محكوم بقاعدة ألا يتجاوز هذا التخصيص ثُلثَ التركة.

2- تقسيم الميراث وفقاً لأربعة أنماط: اتجهت كتب الفقه، في ضوء تشابك نِسب تقسيم الميراث وتعدُّد الحالات والتداخل بينها، إلى تقسيم الميراث وفقاً لأربعة أنواع؛ هي: “التوريث بالفرض، والتوريث بالتعصيب، والتوريث بالرد، والتوريث بالرحم” ويتصل التوريث بالفرض بالورثة أصحاب المقادير الثابتة من التركة، وهم عشرة أشخاص، وفقاً للنصوص القرآنية.

ويُقصد بالتوريث بالتعصيب “الإرث بغير تقدير، فيأخذ الوارث التركة كلها عند الانفراد أو إذا لم يوجد وارث غيره من أصحاب الفروض، أو يأخذ ما بقي من المال بعد أن يأخذ أصحاب الفروض فروضهم؛ وذلك إذا وُجد معه وراث أو أكثر بالفرض، وقد لا يرث شيئاً إذا استغرقت أنصبة الوارثين بالفروض التركة كلها”.

أما التوريث بالرد فيعني “زيادة في الأنصباء ونقصًا في السهام، وشروطه أن يحصل الرد إذا لم يوجد عصبة، ولم تستغرق الفروض المسألة. ويُرَدُّ الزائد على أصحاب الفروض بنسبة فرض كلٍّ منهم”، وفقاً لمقال للدكتور مصطفى مسلم بعنوان “الرد في المواريث”، في حين أن التوريث بالرحم يتعلق بـ”كل قريب ليس ذا فرض ولا تعصيب، ولا يرثون إلا بشرطين: عدم وجود العصبة للميت، وعدم وجود أحد من أهل الرد”.

3- عدم جواز وراثة غير المسلم: يذهب عدد من الآراء الفقهية إلى أنه لا يجوز أن يرث غيرُ المُسلمِ المسلمَ، والعكس أيضاً، استناداً إلى حديث الرسول ﷺ: “لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ”. وهذا الحال ينطبق على الزوجة غير المسلمة المتزوجة بمسلم.

وتفرَّع من هذه القاعدة حالة من الجدل حيال ميراث تارك الصلاة. ويَعتبِر عبد العزيز بن باز أن تارك الصلاة لا يرث مسلماً، وأن ورثته من المسلمين لا يرثونه، ويعلل ذلك بأن “الصحيح أن تارك الصلاة كافر كُفراً أكبر، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه كُفر أصغر، وأنه لا يُكفَّر بذلك إذا كان يُقرُّ بالوجوب ولا يجحد وجوبها، ولكن الصواب أنه كافر كُفراً أكبر”.

4- إعمال قاعدة “للذَّكر مثل حظ الأنثيين“: تستقر القواعد الفقهية على قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين”، انطلاقاً من قول الله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾ )سورة النساء: الآية 11(، ولكن لا تنطبق إلا في حالات أربع فقط، وليست قاعدة عامة في تقسيم الميراث.

وفسَّرت بعض الكتابات أسباب الحالات الأربع التي استندت إلى آيات قرآنية، اعتماداً على “الفرق في المهام والأعباء الاقتصادية بين الرجل والمرأة في حياتهما العائلية؛ فالرجل مُكلَّف شرعاً بالنفقة على المرأة التي في ولايته، فكانت العدالـة أن يكـون حظه من الإرث أكثر من حظ المرأة”، وفقاً لمقال بعنوان “موقف الشريعة الإسلامية من قضية المساواة بين الرجل والمرأة” للدكتور سامح عبد السلام.

تيار إصلاحي

يتنازع عدد من الرؤى التي يصفها أصحابها بأنها “إصلاحية” تأتي في سياق تجديد الفكر الديني، مع الآراء الفقهية التي جاءت في كتب التراث عبر قرون في التاريخ الإسلامي، وهي التنازعات التي لا تقف عند حدود المساواة في الإرث بين الذكور والإناث، وأبرزها:

1- مرونة أحكام الميراث مع التغيرات الاجتماعية: تميل بعض الآراء إلى اعتبار أن قواعد الميراث في ذاتها تندرج تحت الأحكام الاجتماعية؛ أي أنها لا تتعلق بالعقيدة أو الأحكام التعبدية، بل تخضع في الأساس لظروف المجتمعات، ومن ثم فإنها ليست أحكاماً قاطعة متجاوزة الزمن والمكان، استناداً إلى التدرج في تطبيق قواعد الميراث في النص القرآني.

ويذهب رأي الباحث محمد بن جماعة، في مقاله “المساواة في الميراث ضرورة بمنطق القرآن والدولة المدنية المعاصرة”، إلى أن “أحكام الميراث في النص القرآني تدرَّجت خلال سبع مراحل، بين المرحلتين المكية والمدنية، وفقاً لطبيعة المجتمعات آنذاك، بما يدعو إلى استمرار السير على النهج نفسه للتكيف مع المتغيرات الحياتية في المجتمعات المعاصرة، والمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة؛ لانتفاء أسباب تلك الأحكام، وباتت المرأة تعمل الآن”.

2- مركزية الوصية مقارنةً بالأحكام العامة: ترى بعض الرؤى أن الفقه منح أحكام الميراث أولوية على الوصية، رغم أن الوصية في التنزيل الحكيم مفضَّلة على الإرث، باعتبارها أحد أشكال توزيع التركة؛ إذ إنه لا يمكن تقسيم التركة إلا بعد تنفيذ الوصية.

فيما يذهب الدكتور محمد شحرور إلى أن “الوصية تحقق نوعاً من العدالة الخاصة لأشخاص بعينهم لم يرد ذكرهم في آيات الإرث، اعتماداً على وضعهم المالي والاجتماعي والأسري، وبالتزاماتهم تجاه الآخرين”، كما أن عدد آيات الوصية في القرآن عشر آيات، والإرث ثلاث فقط.

ووفقاً لرؤية شحرور، فإن “الوصية قد تنص على أن يكون نصيب الولد المعاق أكبر من نصيب أخيه السَّوِيِّ، مراعاةً للحالة الخاصة”.

3- تأويل مختلف للرجال والنساء في الميراث: تتجه بعض الآراء داخل التيار “القرآني” إلى تقديم تفسيرات مختلفة لقاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين”، التي وردت في نصوص القرآن؛ إذ يرى سامر إسلامبولي أن “محور القسمة يدور على مقام الرجال والنساء لا على نوع الذكور والإناث، بمعنى أن التركة تُوزَّع حسب مستوى مقام الشخص في المجتمع علمياً واقتصادياً”.

ويوضح إسلامبولي أن “محور القسمة هو مقام النساء، وهي ليست جمع امرأة؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لخرج الأطفال الإناث من التركة في جملة ﴿فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾، وإنما جمع نسيء، وتشمل الذكور والإناث من كل الأعمار الذين ما زالوا محتاجين وتابعين في حياتهم لغيرهم، ويعتمدون عليهم بسبب صغر سنهم (أطفال)، أو لأنهم في صدد تكوين أنفسهم، أو أصحاب حاجة وفقر أو مرض”.

كما يشير إلى أن “الرجال (الأشخاص أصحاب العلم والقوة الاقتصادية) من الذكور البالغين والإناث البالغات الذين يعتمدون على أنفسهم وأصحاب قرار، فلهم حصة أقل من حصة النساء؛ لاكتفائهم بأنفسهم وقدرتهم على المعيشة. ولو كانت كلمة الرجال تعني الذكور البالغين فقط، لخرج الأطفال الذكور من القسمة في جملة ﴿وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا﴾”.

4- جواز وراثة غير المسلمِ المسلمَ: تُقِرُّ بعض الاتجاهات داخل التيار “القرآني” بجواز أن يرث غيرُ المسلمِ المسلمَ، والعكس، خلافاً لبعض الآراء الفقهية السائدة؛ وذلك استناداً إلى النص القرآني الذي يُبيح زواج المسلم من أهل الكتاب، وأن طعامهم حِلٌّ للمسلمين والعكس؛ فكيف لا ترث الزوجة غير المسلمة زوجَها المسلم؟

ويستند أصحاب هذا الاتجاه إلى جواز وراثة غير المسلمِ المسلمَ، خاصةً مع إمكانية أن تنص وصية المسلم على توزيع جزء من تركته على غير المسلم، كأن يُخصِّص جزءاً من التركة لطفل يتيم غير مسلم. وبوجه عام فإن آيات الوصية والإرث لم تحدد المستحقين للميراث مسلمين دون غيرهم، بل جاءت أحكاماً عامة، وإلا لذَكَر الله صراحةً اقتصار توزيع التركة على المسلمين فقط.

5- التحرر من سطوة المجتمع الذكوري: تُعارِض بعض الكتابات أنواع تقسيم الميراث وفقاً للقواعد الفقهية التي تنقسم إلى أربعة أنواع باعتبارها قواعد تشكَّلت عبر قرون سابقة في التاريخ الإسلامي، وهي لا تتناسب مع طبيعة المجتمعات المعاصرة، كما أنها جاءت فيما لم يرد فيه نص صريح، مثل التوريث بالتعصيب أو الرد، خاصةً أن تلك القواعد جاءت في ظل سيادة وسيطرة مجتمع ذكوري.

ويرى رشيد إيلال الباحث في التراث، أن من غير المقبول “أن يعصب العم أو من يليه في الدرجة على البنات، ويرث إلى جانبهن فقط لأنه ليس بينهن ذكر، رغم أنه لا يوجد في القرآن نص واضح يتحدَّث عن التعصيب”.

ويعتبر الدكتور محمد شحور أن الخطأ في نظام حساب تقسيم التركة، وفقاً للتفسيرات السائدة للنصوص القرآنية: “ينتج فائض في التركة بعد التوزيع يتم رده، أو نقص في التركة يتم استرداده، وهو ما كان مثار تعجُّب ابن عباس منذ أربعة عشر قرناً، متسائلاً: كيف يجوز عقلاً على عليم يعلم عدد حبات الرمال أن يضع قانوناً لتوزيع الإرث نضطر لعدم إحكامه إلى اللجوء للرد والعول؟!”.

استجابة محدودة

بغض النظر عن الرؤى الرافضة للسائد في المدونة الفقهية بشأن قضايا الميراث وقواعد حسابه وتوزيعه، فإن ثمة مطالبات في عدد من الدول العربية بإقرار المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، وبدا أن ثمة استجابةً في تونس إبان حكم الرئيس التونسي السابق الباجي قايد السبسي عام 2018، بموافقة الحكومة على هذه الخطوة، قبل أن تتعطل مجدداً.

وانتقلت هذه الدعوات إلى عدد من الدول العربية، إلا أنها تُواجِه مُعارَضة من التيارات “التقليدية” و”التراثية”، على اعتبار أن هذه الرؤى المطروحة تُخالِف ثوابت الإسلام. في المقابل، ترى التيارات التي تتبنَّى التجديد في الفكر الديني أن ثمَّة خلطاً بين ثوابت الدين الواردة في نصوص القرآن، والآراء الفقهية التي هي في الأساس مُنتج بشري.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة