تقديم منهجية تأويل المتشابه والنقل على العقل
بعد انتشار المذهب المعتزلي وترسيخ وجوده بين عموم المسلمين، وهو الذي يقول باستخدام العقل لا النقل في تأويل وتفسير أمور الدين الإسلامي، ظَهَر المذهب الأشعري ليخالف المعتَزِلة في كثير من أمور العقيدة والتأويل، ويضيف إلى علوم الكلام الإسلامية أفكاراً وتأويلات جديدة في عصر ظهوره، بعضها تأويلات جديدة في زمنها ومتنها، وبعضها جديد في زمنه دون متنه، وتوَالَت طبقات علماء الكلام من الأشاعرة في تفسير وتأويل أمور الدين وعلم العقيدة والتوحيد حتى العصر الحالي.
تاريخ المذهب
ظَهَر المذهب الأشعري على يد أبي الحسن الأشعري، الفقيه والمحدّث، الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي أبي موسى الأشعري، في أواخر القرن الثالث الهجري، وكان في أول حياته على مذهب المعتزلة، ثم تراجع وتبرّأ من أقوالهم.
ويقول تقي الدين المقريزي، المؤرخ شافعي المذهب، عنه: "صارَ مِن أئِمَّةِ المعتزِلة، ثُمَّ رَجَعَ عن القَوْلِ بخَلْقِ القُرْآنِ وغَيْرِه مِن آراءِ المعتزِلة، وصَعِدَ يَوْمَ الجُمُعةِ بجامِعِ البَصْرةِ كُرسياً، ونادى بأَعْلى صَوْتِه: مَن عَرَفَني فقدْ عَرَفَني، ومَن لم يَعرِفْني فأنا أُعَرِّفُه بنَفْسي، أنا فُلانُ بنُ فُلانٍ، كُنْتُ أَقولُ بخَلْقِ القُرْآنِ، وأنَّ اللهَ لا يُرى بالأبْصارِ، وأنَّ أفْعالَ الشَّرِّ أنا أَفعَلُها، وأنا تائِبٌ مُقلِعٌ، مُعْتقِدٌ الرَّدَّ على المعتزلة، مُبَيِّنٌ لفَضائِحِهم ومعايبهم".
ويقول ابن عساكر الدمشقي، الفقيه والمؤرخ، إن أبا الحسن الأشعري اعتزل الناس مدة خمسة عشر يوماً، وتفرّغ في بيته للبحث والمطالعة، ثم خرج إلى الناس في المسجد الجامع، وأخبرهم بأنه انخلَع مما كان يعتقده من أفكار المعتزلة.
النقل
يستدل الأشاعرة على العقائد بالنقل والعقل، فيثبتون ما ورَد في الكتاب والسُّنة من أوصاف الله والاعتقاد برسله، واليوم الآخر، والملائكة، والحساب والعقاب والثواب؛ ويستدلون بالأدلة العقلية والبراهين المنطقية على صدق ما جاء في الكتاب والسنة، بعد أن أوجبوا التصديق بها كما هي نقلاً، فهم لا يتخذون من العقل حَكَما على النصوص لتأويلها، بل يتخذون العقل خادماً لظواهر النصوص لتأييدها.
والاستدلال عند الأشاعرة يكون بالأدلة النقلية (نصوص الكتاب والسُّنة)، وبالأدلة العقلية على وجه التعاضُد؛ فالأدلة النقلية والعقلية عندهم يؤيد كل منها الآخر، فهم يرون أن النقل الثابت الصريح والعقل الصحيح لا يتعارضان، فمصدر التلقي عند الأشاعرة ليس هو العقل فقط، بل هو الخبر الصادق والعقل.
في "الرسالة اللدنية"، يقول أبو حامد الغزالي، الفقيه الشافعي الأشعري: "وأهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولاً بآيات الله تعالى من القرآن، ثم بأخبار الرسول، ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية".
التأويل
يرى علماء العقيدة الأشعرية وجود طريقتين لتأويل النصوص المتشابهة في القرآن الكريم والمرويات والأحاديث:
1. التأويل الإجمالي: يقول علماء الأشعرية بأن السمة الغالبة في طريقة التعامل مع النصوص المتشابهة، في فترة السلف، كانت بطريق التفويض مع التنزيه، وهو ما يعده الأشاعرة تأويلاً إجمالياً.
فالتفويض (التأويل الإجمالي)، لا يحدد معنى معيناً، بل يكتفي بعدم الإقرار بظاهر النص المتشابه الذي يستحيل على الله، ويفوضون المعنى المراد من النص إلى الله، وهي طريقة السلَف عند الأشاعرة، فتأويل السلف إجمالي لتفويضهم إلى الله في المعنى المراد من اللفظ، الذي هو غير ظاهره المنزَّه عنه تعالى، لأنهم اختاروا السلامة من الخطأ، وهذا في حال التأويل للعوام من الناس.
2. التأويل التفصيلي: يتمسك الأشاعرة بظاهر ما يدل عليه اللفظ، ويجيزون صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح لدليل يقترن باللفظ فيصرفه عن ظاهره. وهذا الدليل يسمى عندهم "قرينة"؛ ومن أمثلة ذلك عندهم الآية القرآنية، من سورة التوبة: ﴿نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡۚ﴾ [التوبة: 67]، فتأتي كلمة النسيان في كلام العرب بمعنى الآفة وذهاب العلم، وتأتي بمعنى الترك، واستعمالها بالمعنى الأول أكثر، لذا كان هو "الظاهر الراجح" من كلمة النسيان بصفة عامة، وكان الثاني، وهو الترك، هو "الاحتمال المرجوح".
لذا، فإنه يتعيّن العدول عن تفسير النسيان في الآية عن الظاهر الراجح وهو الآفة وذهاب العلم، إلى الاحتمال المرجوح وهو الترك، والقرينة الصارفة عن المعنى الأول هو استحالة "آفة النسيان وذهاب العلم" عن الله.
ويذهب الأشاعرة في التعامل مع الآيات المتشابهة إلى تأويل اللّفظ المتشابه، أي بصرفه عن المعنى الظاهر المباشر إلى معانٍ أخرى، ويُستعان على هذا بالقرائن المتعددة، وبعُرف الاستعمال والعادة؛ لأنهم يرون أن التعويل في الحكم والاستنباط على قصد المتكلم ومراده، ومراده يظهر أحياناً من اللفظ نفسه، وأحياناً من العلامات والقرائن المصاحبة.
يستخدم علماء الأشعرية كثيراً من المقولات والبراهين لإثبات ضرورة التأويل، فيقول الشافعي، الفقيه وصاحب المذهب، عن القرآن: "وأن منه ظاهراً يُعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره".
ويقول أبو حامد الغزالي، الفقيه الشافعي: "لما كان زمان السلف الأول زمان سكون القلب، بالَغوا في الكف عن التأويل خيفة تحريك الدواعي وتشويش القلوب، فمَن خالفهم في ذلك الزمان فهو الذي حرك الفتنة وألقى الشكوك في القلوب، مع الاستغناء عنه، فباء بالإثم. أما الآن فقد فشا ذلك؛ فالعذر في إظهار شيء من ذلك، رجاء لإماطة الأوهام الباطلة عن القلوب أظهر، واللوم عن قائله أقل".
ويقول ابن حجر العسقلاني، عالم الحديث الشافعي: "أكثر السلف لعدم ظهور أهل البدع في أزمنتهم يفوضون علمها -آيات الصفات- إلى الله تعالى، مع تنزيهه سبحانه عن ظاهرها الذي لا يليق بجلال ذاته، وأكثر الخلف يؤولونها بحملها على محامل تليق بذلك الجلال الأقدس والكمال الأنفس، لاضطرارهم إلى ذلك لكثرة أهل الزيغ والبدع في أزمنتهم".
القضاء والقدر
يرى الأشاعرة أن جميع أفعال البشر تقع تحت حكم الله وإرادته، وأن ما يقع في الكون من الخير والشر الذي يكون مصدر الإنسان منهما، كله من عند الله، ولا احتمال عند الأشاعرة لتعارض إرادة الإنسان مع إرادة الله، ولا تعارض في ما فشل من إرادته مع إرادة الله، وإنما أراد الله من الإنسان الإرادة والفشل معاً، وأنه لا شيء في الكون خارج إحاطة إرادة الله، وأن إرادة الله شاملة شمولاً لا تخرج عنه أفعال البشر الاختيارية، ولا إرادتهم الجزئية، ويستدل الأشاعرة على ذلك بقوله تعالى في سورة الإنسان: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيمٗا﴾ [الإنسان: 30].
ويفترق مذهب الأشاعرة عن مذهب الجبرية في هذه المسألة، في أن الجبرية لا قدرة ولا إرادة ولا فعل عندهم للإنسان، أما الأشاعرة فيرون أن للإنسان قدرةً لكن لا تأثير لهذه القدرة بجانب قدرة الله، وله أفعال لكن الله هو مَن خلقها، وله إرادة تستند أفعاله إليها، لذا يعدّ الإنسان عند الأشاعرة مختاراً في أفعاله، ويكفي عندهم تسمية أفعاله "أفعالاً اختيارية"، في استناد تلك الأفعال إلى إرادته واختياره، وهذه الإرادة والاختيار عند الأشاعرة هي من الله.
وجمع الجبر مع التفويض والتسيير مع التخيير، هي عند الأشاعرة من خواص قدرة الله، فإن عُـدّ الإنسان بموقفه هذا مجبوراً في أفعاله، فهو مجبور لكنه مجبور غير معذور.
ختاماً، فإن ظهور الفرقة الأشعرية، بوصفه رد فعل معارضاً لأفكار المعتزلة في الجبر والاختيار، ورؤية الله واستخدام العقل أو النقل في التأويل، وانتشار أفكارها في المذاهب والفرق، قد أسهم في إثراء علوم الكلام بكثير من الأدبيات والأفكار التي يؤخذ منها ويُرَد، لكن هذا الانتشار قد أدى إلى اندثار الفكر المعتزلي في طريقة إعمال العقل في التأويل والتفسير.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.