التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم
في ظل التطور المتسارع في علمَي الطب والجراحة، يقف العالَم الإسلامي كل يوم أمام معضلات جديدة تُثير تساؤلات شرعية، لم تكن موجودة في الزمن الإسلامي الأول؛ فظهرت مسألة التبرع بالأعضاء البشرية من أجل إنقاذ حياة المرضى. وهنا، اختلفت الآراء الفقهية وتباينت في تلك المسألة، بين مؤيد يقول بجواز نقل الأعضاء مطلقاً أو بشروط، وبين معارض يقول بعدم جوازه مطلقاً، استناداً إلى تأويل هؤلاء وأولئك الفقهي؛ إذ لا يوجد نص قرآني يمنع ذلك.
فما التأصيل الشرعي لتلك التباينات الفقهية بين الإباحة والتحريم؟
حكم التحريم
يرفض بعض علماء المسلمين مسألة نقل الأعضاء من ميت إلى حي، ومن حي إلى حي مطلقاً، ومن المسلم إلى المسلم أو من المسلم إلى غير المسلم كذلك على الإطلاق، استناداً إلى كون جسده ملكاً لله تعالى وحده، وليس ملكاً لنفسه، وليس له أن يتصرّف بنفسه أو جزء منها في كل الأحوال.
ويرفض ابن باز نقل الأعضاء البشرية، فيقول: “هذه مسألة خلاف بين أهل العلم في الوقت الحاضر، منهم من أجاز ذلك وقال إنه لا بأس بالتبرع، إذا تبرع الحي المكلف الرشيد، إذا تبرع بكليته أو نحوها، لمسلم حي ينتفع بذلك، ومنهم من منع ذلك وقال: إن الإنسان لا يملك نفسه، ولا يملك أعضاءه، وليس له التصرف فيها بقطعها ليعطيها أحداً من الناس، وإنما يتصرف في المال، يعطي ويمنح ما لا يخالف الشرع، أما كونه يتصرف في نفسه بأن يعطي إصبعاً من أصابعه، أو كلية، أو غير ذلك، فليس له ذلك”.
حكم الإباحة
ذهب الجمهور الأكبر من علماء المسلمين إلى جواز نقل الأعضاء لعدة أسباب:
أولاً، التبرع صدقة جارية: يقول شيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوي، الذي سبق وأعلن تبرعه بقرنية عينه بعد وفاته، إنه يجوز نقل الأعضاء الآدمية من إنسان تُوفي حديثاً إلى آخر حي، ما دام ذلك يتم بطريقة سليمة وعن طريق التبرع، معتبراً أن هذا التبرع هو نوع من الإيثار المحمود والصدقة الجارية.
ثانياً، ولاية الإنسان: يقول بعض العلماء، ومنهم الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر الأسبق، إن التبرع بعضو من الأعضاء جائز شرعاً بسبب الولاية التي أعطاها الله تعالى للإنسان على أعضائه، مما يمكّنه من التصرّف في ما ولّاه الله عليه، بشرط ألّا يترتب ضرر بليغ على المتبرع، وأن يتسبب في إنقاذ حياة المتبرَّع له.
ثالثاً، دلائل قرآنية: ذهب المؤيدون إلى أدلة نصية تجيز نقل الأعضاء، منها قوله سبحانه وتعالى: “مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ” [المائدة 32]؛ وقوله سبحانه: “يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ” [البقرة: 185]. وقوله تعالى “يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا” [النساء: 28]، وقوله: “مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ…” [المائدة: 6].
وقد اعتبر بعض من علماء المسلمين تلك الآيات حُكماً عاماً، يشمل إنقاذ الإنسان من التهلكة بأي طريقة طبية ممكنة.
رابعاً، التأصيل الشرعي: توجد أدلة أخذها العلماء من القواعد الفقهية، ومنها أن الضرر يجب أن يُزال وهو من مقاصد الشريعة، والضرورات تبيح المحظورات، وإذا ضاق الأمر اتسع، والأمور بمقاصدها. ومن مقاصد الإسلام الكبرى، المحافظة على الدين والنفس والعقل والمال والعرض والنسل؛ ومعلوم أن الحياة لا تستقيم دون وجود هذه الضروريات. ومن هنا، شرّع الإسلام الحدود والقصاص لكل من ينتهك حرمة هذه الضرورات.
خامساً، تكريم الإنسان: خلق الله الإنسان وكرَّمه، لذلك حرص الإسلام على حياته وعدم الإضرار به؛ وبالتالي، أمرت الشريعة الإنسان باتخاذ كل الوسائل التي تحافظ على ذاته وحياته وصحته، وتمنع عنه الأذى والضرر؛ فأمرته بالبُعد عن المحرمات والمفسدات والمهلكات، وأوجبت عليه عند المرض اتخاذ سُبل العلاج والشفاء. ومن الوسائل الطبية للمحافظة على النفس، نقل بعض الأعضاء من إنسان إلى آخر، سواء من الحي إلى الحي أو من الميت -الذي تحقق موته- إلى الحي.
سادساً، أصل الملكية: إن الذي لا يملكه الإنسان هو حياته وروحه، فلا يجوز الانتحار ولا إلقاء النفس في التهلكة؛ أما الإنسان من حيث أجزاؤه المادية فهو مالكها، وله أن يتصرف فيها بما لا يضره ضرراً لا يُحتمل؛ إذ لا ضرر ولا ضرار. وأيضاً، كل شيء ملك لله، كما في قوله سبحانه: “وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ” [المائدة: 17].
والمال كذلك مال الله، ومع ذلك يقول الله سبحانه: “وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ” [النور: 33]؛ ويقول تعالى: “وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ”، [آل عمران: 180]. فالمال فضل الله ورزقه، ومع ذلك نزكي بالمال ونتبرع به، فلماذا لا نتبرع بجزء من الجسم؟
ألم يُجز العلماء إباحة التبرع بالدم، والدم جزء من الجسم، كما أن المرأة تتبرع بلبنها، فقد تُرضع امرأة طفلاً لامرأة أخرى، وهذا اللبن جزء منها؛ إضافة إلى ذلك، لا يوجد دليل على التحريم، فالأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد من النصوص ما يمنع، ونحن مأمورون بأن ندفع قدر الله بقدر الله.
شروط الإباحة
وضع بعض المشرّعين والفقهاء شروطاً لإباحة نقل الأعضاء، وذلك في حالتين:
الحالة الأولى، النقل من الحي إلى الحي: ومن شروطها الضرورة القصوى لعملية نقل الأعضاء، كالتهديد المستمر لحياة المنقول له، ولا يُنقذه إلا نقل عضو سليم له من شخص حي، بشرط أن يكون المتبرِّع موافقاً وبالغاً وعاقلاً، وألا يؤدي نقل العضو إلى ضرر محقق بالمنقول منه كلياً أو جزئياً، ولا يمنعه من مزاولة عمله مثلاً، وأن يكون النقل دون مقابل مادي أو معنوي مطلقاً، وألا يكون العضو المنقول مؤدياً إلى اختلاط الأنساب.
الحالة الثانية، النقل من الميت إلى الحي: وشروطه أن يكون المنقول منه قد تحقق موته موتاً شرعياً بالمفارقة التامة للحياة، والضرورة القصوى لنقل عضو الميت إلى الحي لإنقاذ الحي من موت محقق، وأن يكون الميت قد أوصى بهذا النقل في حياته بكامل قواه العقلية دون مقابل مادي أو معنوي.
وختاماً، فإن الإسلام الحنيف يدعو إلى كل ما ينفع الناس قطعاً، وينقذ حيواتهم ويحفظ صحتهم وسلامتهم وأمانهم؛ حيث يؤكّد جُلّ علماء المسلمين العلاقة الوطيدة بين تعاليم الإسلام وبين حقائق العلوم الطبية، لكون الإسلام الحنيف يدعو إلى كل ما يخدم الإنسانية تفصيلاً وإجمالاً، ولا يخصص خدمة الإنسانية على المسلمين بصورة خاصة، بل هي للبشرية جمعاء، من المسلمين وغير المسلمين، مصداقاً لقول الله تعالى في كتابه الكريم: “وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ”.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.