ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟
رغم تعدد الدعوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني خلال الأعوام القليلة الماضية، في ظل تصاعد الفكر المتطرف في المجتمعات العربية الإسلامية، بات هذا المصطلح ينطوي على عدد من الإشكاليات، خاصةً عند تجاوُز النظرة الضيقة للتجديد، التي تقتصر فقط على تأهيل قدرات الدعاة، وتطوير وسائل وأدوات الدعوة في عالم اليوم، إلى تبني مشروعات “إصلاحية” لتجديد الفكر الديني.
وثمَّة رؤى وتوجُّهات فكرية متعددة تصارعت في المجتمعات العربية الإسلامية على مدار عقود طويلة، يمتدُّ جذورها إلى نهاية القرن التاسع عشر، ولكن دون تقديم نتائج “جذرية وسريعة” على مستوى تجديد الخطاب الديني، إلا أن التحولات التي شهدتها المجتمعات العربية خلال العقدَين الماضيَين، عقب توظيف التيارات الإسلاموية المتطرفة فتاوى وآراء تراثية لتبرير العنف، دفعت إلى تصاعد دعوات تجديد “الخطاب الديني” من جديد، لكن دون الاقتصار على مستوى مواجهة التطرُّف فقط، بل بما يشمل إصلاح الفكر الديني ككل لتقديم خطاب يتناسب مع العصر الحديث.
إشكاليات متداخلة
يطرح السجال والجدل المستمر في المجتمعات العربية الإسلامية حول مصطلح “تجديد الخطاب الديني”، عدداً من الإشكاليات المرتبطة بهذا المصطلح، ويمكن الإشارة إلى أبرزها كالتالي:
1– بروز التباين في مدلولات المصطلح: على الرغم من شيوع استخدام مصطلح “تجديد الخطاب الديني”، فإن مدلولات المصطلح غير محددة، وفقاً لعدد من العوامل الحاكمة، مثل طبيعة المجتمع، وأنماط التدين السائدة، وطبيعة النخب الدينية في كل مجتمع، وحدود تداخل الديني والسياسي، وغيرها، وفقاً لكتاب “صوت الإمام.. الخطاب الديني من السياق إلى التلقي”.
وتتباين الآراء حول مدلولات “تجديد الخطاب الديني”، وإذا ما كان المقصود منه هو تأهيل الدعاة والقائمين على الفتوى لمُواكَبة المتغيرات المجتمعية وتأثيرات التكنولوجيا على الشباب، وتجنُّب استدعاء مفردات خطابية تراثية، وفقاً لبعض الآراء، كما ورد في دراسة بعنوان “تجديد الخطاب الديني قضية دينية وطنية”، أم أن المقصود هو تغيير التعاطي مع متغيرات العصر القائم، وتجديد الفقه بعيداً عن الآراء الفقهية التراثية، وتقديم رؤية تتجاوز الماضوية؟
2– تصاعد التجاذبات بين 3 تيارات رئيسية: يتصل الجدل حول مدلولات “تجديد الخطاب الديني” بخلافات عميقة بين ثلاثة تيارات رئيسية داخل الفكر الديني؛ أولها “التيار التراثي” أو “الأصولي”. ويضم هذا التيار التنظيمات الإسلاموية على اختلافها مع إعلاء “النقل عن العقل”، والتمسُّك بالمدونة الفقهية السائدة منذ قرون على مدار التاريخ الإسلامي.
أما التيار الثاني فهو “التيار التقليدي” أو “المُحافِظ”، ويُمثِّله بعض الاتجاهات الدينية التقليدية، سواء الرسمية أو غير الرسمية، ويتمسَّك أيضاً بالمدونة الفقهية التراثية، مع تأكيد الحفاظ على الثوابت الدينية دون تبديل. ويتضمن الثالث ما يُصطلح عليه بـ”التيار التجديدي” أو “الإصلاحي”، ويضم عدداً كبيراً من الآراء والمشروعات الفكرية الممتدة منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وهي الآراء التي رغم اختلافها، تركز على مشروعات “إصلاحية” للفكر الديني، مع بروز قراءات حداثية للنص القرآني.
3– تعدُّد المداخل لدراسة “تجديد الخطاب”: تتعدَّد المداخل المتاحة لـ “تجديد الخطاب الديني”؛ فبعضها فلسفي يُركِّز على ضرورة إعمال العقل دون الاستناد إلى النقل عن نصوص تراثية قديمة، ويدعو إلى أهمية النقد الفكري والفلسفي، من خلال “تحـرُّر الدين من العلاقات الجامـدة، وخلـق مرحلـة التعـايش مع الأفكـار والأيديولوجيات والأديـان الأخـرى داخليـاً وخارجيـاً، وتـرك نمـط التفكيـر الـرافض للأفكـار والبنى السياسية الأخـرى”، وفقاً للكاتب أحمد شيخو في مقاله عبر موقع “الحوار المتمدن”.
وفي المقابل، ثمَّة مدخل فقهي خالص، يؤمن أصحابه بأن “تجديد الخطاب الديني” عملية لا تقتصر على أسلوب ومفردات الخطاب، بل تتخطَّى ذلك إلى ضرورة تجديد الفقه، الذي هو من صنع البشر – وفقاً لأصحاب هذا الرأي – بما يعني أن المدونة الفقهية التي تكوَّنت في التاريخ الإسلامي عبر قرون، أضحت لا تتناسب مع العصر الحالي بتعقيداته، وتحتاج إلى تغيير.
4– مستويات التجديد وبنية الخطاب الديني: يتضح من خلال السجالات حول “تجديد الخطاب الديني”، أن ثمَّة خلافاً حول مستويات التجديد، وعلاقة ذلك ببنية الخطاب الديني بوجه عام؛ إذ تدفع بعض الاتجاهات الفكرية إلى أهمية التحرر من القيود المتعلقة بالنصوص التراثية، واستنباط أحكام تتجاوز السياقات الزمنية والمكانية للفتاوى والآراء الفقهية.
ويمكن الإشارة إلى إحدى القضايا الإشكالية في هذا السياق، وهي أحكام المواريث؛ ففي حين أقدمت بعض الدول العربية الإسلامية على المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث، مثل تونس، فإنه في المقابل، يُعارِض هذه الخطوةَ التيارُ “التقليدي” أو المُحافِظ في عدد من الدول الأخرى.
5– تحديد الجهة المسؤولة عن مسار التجديد: ثمَّة إشكالية تَبرُز بشأن المسؤول عن تجديد الخطاب الديني، وتحديد مستوياته، وآليات التنفيذ، وهي تتجلَّى عادةً بين كلٍّ من الدعاة ورجال الدين، والدولة والمجتمع، والمثقفين والمفكرين والباحثين حتى من خارج دارسي “العلوم الشرعية”.
ويتَّضح من خلال تجارب بعض الدول فيما يتعلق بـ”تجديد الخطاب الديني” أن توجهات السلطة السياسية تُعَد حاكمةً في بعض الحالات لتنفيذ عمليات الإصلاح في الخطاب الديني وبنيته، حتى مع معارضة بعض التيارات “التراثية” أو “التقليدية”.
رؤى متعددة
هناك اتفاق بين مختلف الاتجاهات والتيارات المنشغلة بالفكر الديني الإسلامي بشأن مسألة “تجديد الخطاب الديني” من ناحية اللغة والمفردات على الأقل، إلا أن الخلافات تتجذَّر حول المسألة في ضوء تعدد المشروعات والأطروحات، ويمكن الإشارة إلى أبرزها كالتالي:
1– تجديد الخطاب من داخل المدونة الفقهية: يؤكد التياران “التقليدي أو المحافظ” و”التراثي”، أن التجديد من جوهر الإسلام، استناداً إلى حديث منسوب إلى الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم): “يبعث الله على رأس كل مائة عام مَن يُجدِّد لهذه الأمة أمر دينها”، ولكن ترتبط تأويلات هذا الحديث بتجديد مفردات الخطاب بصورة رئيسية.
ويُعبِّر عن هذا الطرح مقال للكاتب “حاتم محمد شلبي” بعنوان “ما وراء الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني عند البعض”، الذي اعتبر أن تجديد الخطاب بمنزلة “انسياق وراء ما يُملِيه علينا أعداؤنا، وتفريغ للدين من ثوابته وأركانه”. وفي المقابل، هناك محاولات توفيقية داخل التيار “التقليدي”، من داخل بعض المؤسسات الرسمية الدينية، التي ترى ضرورة تنقية كتب التراث.
2– دفع بعض التيارات نحو القطيعة مع التراث: تدفع بعض الاتجاهات داخل التيار “التجديدي” أو “الإصلاحي” إلى محورية القطيعة مع التراث في التاريخ الإسلامي، وتُصنَّف تلك الرؤى بأنها “حداثية” تعتمد على منهجيات علمية عند النظر إلى الدين والتعامل مع النصوص الدينية.
وتدعو بعض المشروعات الفكرية إلى تجاوز التراث الإسلامي، مثل “محمد أركون” الذي بنى مُقارَبة لدراسة التراث الديني على ثلاثة مفاهيم مركزية؛ هي: “الخرق، والزحزحة، والتجاوز”، وفقاً لدراسة “التجديد في فكر أركون: مظاهره وحدوده” للباحث حاتم السالمي، فيما يُكرِّس الدكتور “محمد شحرور” للفصل بين تجديد الخطاب الديني والتراث الإسلامي، باعتبار أن الأخير “تاريخاً”.
3– بروز قراءة حداثية بديلة للنصوص الدينية: يسعى البعض إلى تقديم قراءة حداثية للنصوص الدينية لعدد من المشروعات الفكرية تعتمد على إعمال مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة في دراسة الدين والنصوص الدينية، ومن هؤلاء المفكر المغربي الدكتور “طه عبد الرحمن”، الذي قدَّم مُقارَبة حداثية بديلة في سياق الانشغال بالتأخر التاريخي للمسلمين حضارياً.
ويُقدِّم “عبد الرحمن” طرحاً حداثياً، لكنه مغاير لما قدَّمته المشروعات الحداثية لـ”محمد أركون” و”محمد شحرور” و”نصر حامد أبو زيد” وغيرهم، باعتبار أن تلك القراءة الحداثية للقرآن والنصوص الدينية ليست تطبيقاً مباشراً لروح الحداثة، بل تقليد للتطبيق الغربي للحداثة، مع الإقرار بوجود فضاء مفتوح بين جميع أشكال المعرفة والدين، وفقاً للدكتور الحسن حما، في دراسته بعنوان “طه عبد الرحمن وإمكان تقديم قراءة حداثية للقرآن الكريم”.
4– تجديد الخطاب على خلفية مركزية القرآن: يُقدِّم ما يُعرف بـ “التيار القرآني” طرحاً لتجديد الخطاب الديني، يستند في الأساس إلى مركزية القرآن الكريم في فهم الإسلام واستنباط الأحكام، في محاولة لتقديم قراءة مغايرة عن التيارات الدينية التقليدية والتراثية.
ومن ثم فإن هذا التيار، على اختلاف مناهج المنتسبين إليه، يتخذ موقفاً رافضاً لمصادر التشريع من غير القرآن، مثل كتب الأحاديث، وكتب الفقه، على اعتبار أنها لا تمثل الإسلام، وإنما تمثل مؤلفيها. وترى بعض الاتجاهات داخل التيار القرآني أن “كتب التراث تخلط بين المُقدَّس والدنيوي”، وتُضمِّن الرؤى الشخصية للمفكرين والفقهاء باعتبارها “ديناً”.
5– أولوية التركيز على البُعد الحضاري والنهضوي: تعتمد بعض المُقارَبات لتجديد الخطاب الديني على محورية الخطاب المُستخدَم، ودوره في البناء الحضاري للمسلمين ونهضة الدولة، بغض النظر عن القضايا والخلافات الفكرية والفقهية الدقيقة؛ إذ تشير بعض الكتابات إلى محورية التعليم، وفي جزء منه التعليم الديني، وعلاقاته بمخططات التنمية، كما في النموذج الماليزي الذي ربط التجربة المالية في التنمية ببعض المقولات الإسلامية، من خلال توجيه التعليم الديني لخدمة برامج التنمية، مع محاولة التوفيق بين القيم الرأسمالية والتوجهات الدينية.
ويُدافِع عن هذا الاتجاه الباحث الأردني “حسن اسميك” الذي ربط عملية “تجديد الخطاب الديني” بالمسار الإصلاحي ونهضة الأمة العربية والإسلامية، باعتبار أن “تجديد الخطاب” أحد مقومات النهضة والتغيير والتطور.
إصلاح الفكر الديني
رغم تعدُّد المشروعات الفكرية لـ”تجديد الخطاب الديني”، وتحديداً المشروعات ذات التوجهات الحداثية أو الإصلاحية، فإنه ثمَّة إقرار واضح من جانبها بشأن حتمية ما يُصطَلح عليه “إصلاح الفكر الديني”، من خلال تحرير العقل من القيود، وتحجيم تغلغل النقل والمقولات التراثية في الفكر الديني، والإجابة عن تساؤلات مهمة بشأن موقع ودور الدين في بناء الحضارة، وتأثيراته المنعكسة على حياة المسلمين، على نحوٍ يضمن تقدُّم المجتمعات ونهضتها.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.