مصادر الأحكام:

مركزية القرآن الكريم كمصدر رئيس للتشريع

مركز حوار الثقافات

01-09-2024

اتفق المسلمون على مر العصور على أن القرآن الحكيم، المنزّل من رب العالمين على نبيِّه الخاتم، هو الكتاب التامّ الجامع للإرشادات الروحية والأحكام الشرعية، والأوامر والنواهي، والمباح والمحظور، والحِلِّ والتحريم؛ ولم يختلف المسلمون قط على مصداقية تأصيل الآيات المحكمات من القرآن. ولكن مع مرور العقود، وبدء تدوين “السُّنّة” في عصر متأخر عن زمن النبوّة، ظهرت استدلالات وأحكام “شرعية” محدثة، لم ترد في آيات الذكر الحكيم؛ بل وتعطّله لصالح التدوين المتواتر والمختلَف عليه، لبعض الأحاديث والمرويّات وقصص الإخباريين.

مرتكزات رئيسة للتشريع

عند الحديث عن مصادر التشريع، لا بد من الإشارة إلى عدد من المرتكزات الرئيسة:

أولاً، الكتابُ مصدر جامعٌ غير مختلف عليه: القرآن الكريم هو كتاب الله التام الخاتم، الجامع لأحكامه وإرشاداته الروحية، وهو كتاب واضح وكامل بحكم اعتقاد جموع المسلمين؛ ولا يحتاج كلام الله المنزّل على نبيِّه إلى تكملة أو مساعدة خارجية، ولا يوجد قول بشر يصل في تأصيله واكتماله وشموليته إلى مرتبة قول الله تعالى في آياته البيّنات.

ولعل الاعتقاد في غير ذلك، هو “تضعيف” لكلام الله المُنزّل في كتابه الحكيم، الذي هو غير مختلف عليه على الحقيقة؛ حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم في سورة النحل: “وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ” [النحل: 89]. ووضوح المعنى جَلِيٌّ في الآية الكريمة، “تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ”، ولم تستثنِ الآية ذلك بطلب عونٍ خارج الكتاب الأعظم.

ويقول الله تعالى في سورة المائدة: “وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِناً عَلَيۡهِۖ ” [المائدة: 48]؛ بما يعني أن كتاب الله هو الخاتم الحق الذي يُرجع إليه في أي تعارض في الأحكام، بينه وبين كتب الله المنزلة على أنبيائه. فإذا كان القرآن الكريم مهيمناً في التأصيل والمرجعية على بقية الكتب السماوية، فهو مهيمنٌ بالتأكيد على كل كلام البشر والمرويات والأحاديث وقصص الإخباريين.

ويقول الله تعالى في سورة الكهف: “وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا” [الكهف: 27]. وهنا، ينفي الله سبحانه وتعالى البديل والملاذ عن كتابه الكريم، فلا تبديل لكلماته ولا منقذ إلا القرآن الكريم.

ثانياً، ما هو خارج كتاب الله مختلف عليه: اختلف العلماء المسلمون وجامعو الأحاديث والمصنّفون والفقهاء، على عديد من الأحاديث والمرويات الشفاهية والمكتوبة والقصص المتواترة. ولا يمكن إنكار اختلاف الأحكام والتشريعات والرؤية، بين المذاهب والفرق الإسلامية، المبنية على استكمال النص القرآني بمساعدة خارجية، لم يتطلبّها النص القرآني في متنه بأي حال من الأحوال؛ خاصة أن الله سبحانه أكّد استحقاق النص القرآني المرجعية الأولى والنهائية دون أي مواربة.

ومن المعلوم بديهةً أن المسلمين الأوائل لم يحتكموا إلى أي شيء غير كتاب الله المهيمن؛ رغم ذلك، جرى استخدام مرجعيات من خارج كتاب الله الخاتم في تبديع وتكفير المختلفين، وفي إصدار فتاوى وأحكام فقهية لم ترد أصلاً في آيات الذكر الحكيم.

ثالثاً، كل مصدر مختلف عليه ليس مرجعيةً كاملة: اختلاف الفقهاء وعلماء الشرع الشريف على مرجعية بعض الأحاديث وتأصيلها، وكذا على مرجعية كثير من المرويّات والأخبار والقصص، هو دليل واضح على أنها لا تُعدّ المرجعية الكاملة المأخوذ عنها الدين الحنيف.

فلم يتفق كل علماء المسلمين إلا على شيء واحد، هو المرجعية الكاملة للقرآن الكريم دون غيره، فلا توجد آية قرآنية مضعّفة أو منكرة أو موضوعة أو غير مثبتة؛ اعتماداً على قول الله تعالى في سورة الحجر: “إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ” [الحِجر: 9].

ولم يرِد خبر عن المولى عزَّ وجل حول حفظه التام، بالتأكيد، إلا على القرآن الحكيم دون غيره.

مصادر أُخرى للتشريع

أولاً، السُّنَّة: وهي ما وَرَدَ عن النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام، من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفة خَلقيّة أو خُلُقيّة أو سيرةٍ، قبل البعثة النبوية أو بعدها. وقد اختلف العلماء والرواة والمحدثون والفقهاء على كثير من روايات الحديث وعلى رجالها أيضاً؛ سواء على المتن الصحيح لنصوصها وصياغتها، أو على رُواتِها. ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، رفع مرتبة الحديث في المرجعية والتأصيل والتأكد من ثبات النص، إلى مرتبة القرآن الكريم المنزّل من رب العالمين على نبيّه الأكرم، فلا توجد مرجعية تتساوى مع الذكر الحكيم في الحُجِّيّة ووجوب العمل بها، ولا يمكن رفع خبر أو أثر أو مروية أو حديث إلى مرتبة الحجية الكاملة دون القرآن.

ثانياً، الإجماع: وهو اتفاق المجتهدين من أمة الإسلام على أمر من أمور الدين، بعد وفاة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام. وبداهةً، فأي تعارض بين إجماع المجتهدين وبين الآيات البيّنات، يُرَدُّ قطعاً إلى النص القرآني؛ ولا يجوز تفعيل الإجماع، الذي هو “بَشَريٌّ” في طبيعته، على البيان القرآني الذي هو “إلهيٌّ منزَّلٌ” من رب العالَمين.

ثالثاً، القياس: وهو تسوية واقعة لم يرد فيها نص بواقعة ورد نص بحكمها، لتساوي الواقعتين في عِلّة هذا الحكم. وهو أول طريق يلجأ إليه المجتهد لاستنباط الحكم في ما لا نص فيه. وهو أيضاً “اجتهادٌ بشريٌّ” في أصلِه، لا يرقى في كل حال إلى النص القرآني.

مصادر فرعية للتشريع

توجد مصادر أخرى للتشريع الإسلامي مختلَف فيها، كـ”العُرف”، وهو ما يتعارف عليه أكثر الناس؛ و”الاستصحاب”، وهو جعل الحكم الذي كان ثابتاً في الماضي باقياً في الحال حتى يظهر دليلٌ على تغيّره، ثم الاستحسان وشرع مَن قبلنا والمصالح المرسلة وقول الصحابة وسد الذرائع.

وقد كان لاستخدام تلك المصادر في التشريع، وإصدار الأحكام والفتاوى دون كتاب الله نتائج كارثية، من تكفير وتبديع الناس في شؤونهم العامة والخاصة، على الرغم من أن الله تعالى قد أمرنا باتباع كتابه الكامل التام.

وختاماً، المصدر الأول والقطعي الوحيد للتشريع الإسلامي هو القرآن الكريم، الذي أوحى به الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الأكرم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ وما دون ذلك هو اجتهاد بشري نسبيّ يؤخذ منه ويُرَد عليه حسب تأصيله ومتانته، وحسب الاختيار الحر الفردي للإنسان، ما دام لم يخالف النص الصريح لآيات القرآن الحكيم، ولا توجَد حجِّيّة واحدة لم يختلف عليها إلا التنزيل الحكيم.

وليس من الممكن، بداهةً، أن نساوِي بين كلمات الله وأحكامه، وبين أقوال البشر وتقديراتهم النسبية، للأحداث المتباينة اللا نهائية؛ وإن المؤمن بالله سبحانه يكتفي به رباً ونصيراً ومرشداً، فالله الكامل العادل هو الكافي الذي لا يحتاج كلامه إلى إكمال أو مساعدة.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في سورة العنكبوت: “أَوَ لَمۡ يَكۡفِهِمۡ أَنَّآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحۡمَةٗ وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ” [العنكبوت: 51]. هذا السؤال الاستنكاري في الآية الكريمة، يوضّح كيف أن كتاب الله هو كتاب كافٍ وتامّ، وفيه الرحمة والتذكرة للمؤمنين.

وطريق الله الحق واضح، أوضحه الله تعالى للبشر أجمعين في كتابه الحكيم، لم يضع استثناءً مرجعياً يفوق كلمات الله التامات في القرآن الكريم، وإن جُلّ التشرذم والاختلاف في الآراء والأهواء، سببه رفع مصادر أخرى بشرية للتشريع على مرتبة كتاب الله الخاتم.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة