قضية الموسيقى:

اختلافات الفقهاء بين الإباحة والتحريم

مركز حوار الثقافات

01-09-2024

يتفق أغلب الفقهاء على أن “الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص بالتحريم”. والتحريم، لغة، ضد التحليل أو الإباحة، و”أَحْرَمَهُ” تعني “منعَه إيَّاه” كما جاء في المنتخب من صحاح الجوهري. أما اصطلاحاً، فيقول أبو المنذر المنياوي إن التحريم هو “نهي الشارِع على وجه الإلزام”، وهو “لا يُثاب تاركه مطلقاً ولكن يثاب إن تركه امتثالاً. ولا نجزم بعقاب فاعله، فقد لا يُعاقَب ويغفر الله له إن شاء”، مستنداً في ذلك إلى ما جاء في سورة النساء، من قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ﴾ [النساء: 116].

فما موقف الموسيقى من هذا.. هل مباحة، أم مسكوت عنها، أم يوجد نص قطعي الثبوت والدلالة يحرمها؟

آليات التحريم

أباح الشارِع غالبية الأشياء وحرم بعضاً منها وسكت عن البعض الآخر. وهنا يختلف الفقهاء، فيقول الغالبية إن المسكوت عنه حلال، وينفرد أبو حنيفة بأنه حرام، وهو رأي خالفه فيه كثير حتى من أتباع مذهبه، كما أشار محمد الزحيلي في كتابه “القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، 2006”.

وتدعم هذا الرأي الرواية المنسوبة لسلمان الفارسي، أنه قال: “سُئل رسولُ الله عن السمنِ والجبنِ والفراءِ؟ فقال: الحلالُ ما أحل اللهُ في كتابهِ، والحرامُ ما حرم اللهُ في كتابهِ، وما سكت عنهُ فهو مما عفا عنه”.

وتقع معظم الفنون، ومنها الموسيقى، في مساحة ما سكت عنه الشارِع؛ ومع ذلك، يذهب عدد غير قليل من الفقهاء لتحريمها، رغم عدم ذكرها في القرآن.. ومن ثم، يظل الأمر خلافياً ولا إجماع فيه.

دلائل المُحرِّمين

يستند من يحرمون الموسيقى إلى بعض الأحاديث المنسوبة للنبي، وهي بطبيعة الحال ظنية الثبوت، بالإضافة إلى تأويل بعض الآيات غير قطعية الدلالة:

أولاً، الشيخ ابن باز: فنجد عند ابن باز في مجموع فتاواه رواية نصها: “قال أبو الصهباءِ: سألت ابنَ مسعودٍ عن قولِه تعالَى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ﴾ فقال: واللهِ الذي لا إلهَ غيرُه هو الغناءُ، يُردِّدُها ثلاثَ مراتٍ”.

ونرى، هنا، أن الآية التي وردت في سورة لقمان [لقمان: 6]، رغم كونها قطعية الثبوت، فإنها غير قطعية الدلالة بخصوص الموسيقى؛ وبالتالي، فهذا رأي ابن مسعود حسب فهمه للآية ليس أكثر.

ثانياً، الترخيص المشروط: تُنسب رواية أخرى إلى عامر بن سعد، أنه قال: “دخَلتُ على قَرَظةَ بنِ كعبٍ، وأبي مَسعودٍ الأنصاريِّ في عُرسٍ، وإذا جَوارٍ يُغنِّينَ، فقُلتُ: أنتُما صاحِبا رسولِ اللهِ، ومن أهلِ بدرٍ، يفعَلُ هذا عندَكُم. فقالَ: اجلِس إنْ شئتَ، فاسمَع معَنا، وإنْ شِئتَ اذهبْ، قَد رخَّصَ لنا في اللَّهوِ عندَ العُرسِ”.

وهنا، يحتج المُحرِّم، مُحَرِّم الموسيقى، بكون الرُّخصة مرتبطة بالحدث الظرفي، ما يعني أنه غير مرخص به في العموم؛ وهي قراءة لا تخلو من المنطق، لكنها في الوقت نفسه تهبط بالرفض من درجة التحريم إلى درجة المكروه على أكثر تقدير.

ثالثاً، حديث النبي: والحديث المقصود هو: “يكونُ في أمَّتي قذفٌ، ومسخٌ، وخسفٌ. قيل: يا رسولَ اللهِ، ومتَى ذاك؟ قال: إذا ظهرَتِ المعازفُ، وكثُرتِ القِيانُ، وشُرِبت الخُمورُ”.

والحديث، على افتراض صحته، يجري تأويله بشكل غير دقيق، فالشيخ الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق، خلال لقاء تليفزيوني بإحدى القنوات الفضائية كان يتحدث عن الموسيقى والغناء وعن عدم حرمانيتهما؛ وعند سؤاله عن هذا الحديث، قال: “الإمام النووي يقول إن العلامات لا علاقة لها بالأحكام، وهذه علامات مثل (التطاول في البُنيان).. فهي علامة لكنها حلال”، لذلك “فالعلامات لا تُستنبط منها أحكام”. وأضاف أن جمع العلامات لا يعني شيئاً تشريعياً “فالاقتران ليس بحجة، شرب الخمور حرام لكن ما هو معطوف عليه ليس بالضرورة أن يكون كذلك”.

دلائل الإباحة

في كتابه “حكم الغناء والمعازف وآلات الملاهي”، أورد أبو فيصل البدراني رأي الشيخ محمد الغزالي الذي أحلَّ الموسيقى والغناء متبعاً في ذلك الإمام ابن حزم.

أولاً، رأي محمد الغزالي: ينطلق الشيخ محمد الغزالي من القاعدة الفقهية “إن الأصل في الأشياء الإباحة”؛ وكما ورد في المصدر السابق فالغزالي يرى “أنه لم يرد حديث صحيح في تحريم الغناء على الإطلاق”. وبناءً عليه ذهب الشيخ إلى أن “الغناء ما هو إلا كلام، فحسنه حسن وقبيحه قبيح”، وقال عن الموسيقى: “والموسيقى كالغناء”.

ثم ضَمَّن الكاتب من كلام الشيخ قوله “رأيت في السُّنة أن النبي مدح صوت أبي موسى الأشعري -وكان حلواً- وقد سمعه يتغنى بالقرآن فقال له: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داوود). ولو كان المزمار آلة رديئة ما قال له ذلك. وقد سمع رسول الله الدف والمزمار دون تحرج، ولا أدري من أين حرَّم البعض الموسيقى ونفر في سماعها؟”.

ثانياً، رأي ابن حزم: تبرز أهمية دفاع ابن حزم عن إباحة الموسيقى والغناء، في كونه ضعّف بعض الأحاديث المنسوبة للنبي في هذا الشأن، خصوصاً الحديث الذي رواه البخاري معلقاً عن أبي مالك الأشعري، أنه سمع رسول الله يقول: “ليكوننّ من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف”.

فيقول ابن حزم عن سند هذا الحديث: “إن السند هنا منقطع، ولم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد راوي الحديث”. ويكمل ابن حزم: “لعل البخاري يقصد أجزاء الصورة كلها، أعني جملة الحفل الذي يضم الخمر والغناء والفسوق، وهذا محرم بإجماع المسلمين”.

هنا، قدم ابن حزم رأياً فيه كثيرٌ من الوجاهة، فهناك أشياء ليست محرمة، لكنها ضمن مفردات أجواء محرمة بالكامل؛ فالولائم والفواكه والثلج والأضواء الخافتة.. و.. و.. كلها من مفردات السهرات الماجنة، لكن في الوقت نفسه كل منها على حدة ليس محرماً.

ثالثاً، موقف النبي: كما ورد في الروايات والأحاديث ما يرفض الغناء، فقد ورد فيها أنه كان يحدث في بيت النبي؛ ففي صحيح البخاري نجد رواية تقول: “أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، دَخَلَ عَلَيْهَا، وعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ في أيَّامِ مِنًى تُغَنِّيَانِ، وتُدَفِّفَانِ، وتَضْرِبَانِ، والنبيُّ مُتَغَشٍّ بثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُما أبو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النبيُّ عن وجْهِهِ، فَقالَ: دَعْهُما يا أبَا بَكْرٍ، فإنَّهَا أيَّامُ عِيدٍ. وتِلْكَ الأيَّامُ أيَّامُ مِنًى. وَقالَتْ عَائِشَةُ: رَأَيْتُ النبيَّ يَسْتُرُنِي، وأَنَا أنْظُرُ إلى الحَبَشَةِ، وهُمْ يَلْعَبُونَ في المَسْجِدِ، فَزَجَرَهُمْ فَقالَ النبيُّ: دَعْهُمْ، أمْناً بَنِي أرْفِدَةَ يَعْنِي مِنَ الأمْنِ”.

وختاماً، من كل ما سبق، نستنتج أنه لا يوجد نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة يحرم الموسيقى والغناء، فلا آية قطعية الدلالة تقول بحرمانيتهما، ولا حديث متفق عليه مقطوع بصحته يفعل الأمر نفسه؛ بل إن أصح الأحاديث المتعلقة بالموضوع تقول إن الغناء كان في بيت النبي يوم العيد، ورَخَّصهُ في إشهار النكاح.. ما يدل على كونه غير محرم على إطلاقه، وإلا ما تم به ابتداء حياة جديدة.

وعليه، فإن الأقرب إلى الصواب هو الرأي القائل بأن يعاملا معاملة الكلام.. حلالهما حلال وحرامهما حرام، فيمكن أن نستخدمهما في المناسبات والاحتفالات، لكن لا يجوز استخدامهما للصد عن سبيل الله أو في الدعاية للهو والرذيلة، مثله مثل السكين ينفع في تقطيع الطعام ويمكن أن يُطعن به إنسان حتى الموت؛ وبالطبع، من الوارد أن يكون هذا الطعن دفاعاً عن النفس أو الأرض أو العِرض؛ لذا يستحيل أن يوجد رأي فقهي في السكين بحد ذاته.. إنما يتوقف الأمر على كيفية الاستخدام والهدف منها.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة