الاختلاف والتراجع في تحريم التصوير
التصوير هو إحدى القضايا الخلافية في الفِقه الإسلامي؛ وبالنظر إلى الفِرق والمذاهب الإسلامية، نجد أن أهل السُّنة هم فقط مَن يحرمون التصوير. فهل هذا التحريم من الشرع، أي قديم قِدم الدين نفسه ويعتمد على أمر إلهي واضح؟ أم اجتهاد فقهي جرى توارثه؟ أم هو أمر مُستحدث نتاجاً لتطور الفِقه.. وإذا كان كذلك، فعلامَ يعتمد الفقهاء في هذا الحكم التحريمي؟ ومتى حدث ذلك؟
تعريف التصوير
للحديث عن تحليل أو تحريم أي شيء، يجب أولاً الاتفاق عليه من حيث المفهوم والمعنى، فلا يمكن تحديد موقف من شيء دون أن نعرف ماهيته.
1- المعنى اللغوي للتصوير: كلمة “تصوير”، لغة، من الجِذر”صور”. ويُعرف المعنى اللغوي لكلمة “تصوير”، في الجزء الثاني من موسوعة المصطلحات الإسلامية، إعداد مركز رواد الترجمة، بأنه: “صناعة الصورة. والصورة تأتي بمعنى حقيقة الشيء وهيئته التي يتميز بها من غيره، وتأتي أيضاً بمعنى صفة الشيء، يقال: صورة الشيء كذا وكذا، أي صفته. ويأتي التصوير بمعنى رسم الشكل، فيقال: صَوَّر الشخص إذا رَسَم له شكلاً، ومن معانيه أيضاً: التخييل والتمثيل، تقول: تصورت الشيء، أي.. مثلت صورته وشكله في الذهن”.
2- التعريف الاصطلاحي: طبقاً للمرجع السابق يُعرف التصوير بأنه: “صُنع الصورة سواء كانت مُجسمة أو غير مُجسمة، وسواء كانت باليد أو بالآلة”.
ويُستخدم المصطلح عادة للإشارة إلى التصوير الفوتوغرافي أو الرسم أو النحت أو النقش “بارزاً كان أو غائراً”، إلى آخر وسائل التجسيد.
دلائل التحريم
يعتمد القائلون بتحريم التصوير على مجموعة نصوص؛ تأويل آية واحدة فقط، بالإضافة إلى عِدة أحاديث منسوبة للنبي.
أولاً، آية سورة الأحزاب: وهي الآية التي يتم تأويلها لتحريم التصوير؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابٗا مُّهِينٗا﴾ [الأحزاب: 57]. وكما يبدو، فإن نص الآية يخلو من أي إشارة إلى التصوير تصريحاً أو تلميحاً.
إنما بالعودة إلى المفسرين، نجد أن القرطبي في تفسيره للآية قدم عدة تأويلات وآراء لتعريف “ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ”، منها رأي عكرمة بن أبي جهل الذي قال: “معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها، وقد قال رسول الله: لعن الله المصورين”.
وهو رأي انفرد به عكرمة، ولم يُقدم سبباً لهذا الفهم أو الرأي الذي انفرد به.
ثانياً، لعن المصورين: في تعريف عكرمة لـ”ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ”، ذكر أن الرسول قال “إن المصورين عليهم لعنة الله”؛ وبالبحث عن هذا الحديث نصِل إلى نص منسوب للنبي يقول: “رَأَيْتُ أبِي اشْتَرَى عَبْداً حَجَّاماً، فَسَأَلْتُهُ فَقالَ: نَهَى النبيُّ عن ثَمَنِ الكَلْبِ وثَمَنِ الدَّمِ، ونَهَى عَنِ الوَاشِمَةِ والمَوْشُومَةِ، وآكِلِ الرِّبَا ومُوكِلِهِ، ولَعَنَ المُصَوِّرَ”.
وهنا، يصعب تحديد نوع المصوِّر المقصود، فبحسب التعريف اللغوي والاصطلاح الفقهي فالتصوير أنواع؛ فهل، هنا، قصد النبي المعنى على إطلاقه، أم كان يقصد مَن ينحتون الأصنام ليعبدها الناس؟
ثالثاً، رسم ما ليس فيه روح: حيث يُسمح برسم ما ليس فيه روح، وذلك بناءً على رواية عن ابن عباس تقول: “كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، إذْ أتَاهُ رَجُلٌ فَقالَ: يا أبَا عَبَّاسٍ، إنِّي إنْسَانٌ إنَّما مَعِيشَتي مِن صَنْعَةِ يَدِي، وإنِّي أصْنَعُ هذِه التَّصَاوِيرَ، فَقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لا أُحَدِّثُكَ إلَّا ما سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ يقولُ؛ سَمِعْتُهُ يقولُ: مَن صَوَّرَ صُورَةً، فإنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ حتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وليسَ بنَافِخٍ فِيهَا أبَداً. فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً، واصْفَرَّ وجْهُهُ، فَقالَ: ويْحَكَ! إنْ أبَيْتَ إلَّا أنْ تَصْنَعَ، فَعَلَيْكَ بهذا الشَّجَرِ، كُلِّ شَيءٍ ليسَ فيه رُوحٌ” (المصدر: صحيح البخاري).
وهذا الحديث بنصه ذاك، يضعنا أمام إشكاليات عِدة، كحتمية الصور الشخصية في العصر الحديث من ناحية، بالإضافة إلى التصوير التليفزيوني، الذي صار من أساسيات الحياة الآن، فكثير من الفعاليات العلمية والدينية تُبَث تليفزيونياً، أو تصويرها ونشرها عبر مختلف الوسائط الحديثة لتعم فائدتها ولا تقتصر على الحاضرين. كما لم يعد بين الناس الآن مَن يعتبر الشجر والنباتات من الجمادات عديمة الحياة.
رابعاً، الملائكة والصور: أما أكثر النصوص المُعتمد عليها في عملية تحريم التصوير ككل، وليس صناعة الأصنام على وجه التحديد، فهي الرواية المنسوبة للسيدة عائشة: “أنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسولُ اللَّهِ قَامَ علَى البَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ في وجْهِهِ الكَرَاهيةَ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أتُوبُ إلى اللَّهِ وإلَى رَسولِهِ، مَاذَا أذْنَبْتُ؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ: ما بَالُ هذِه النُّمْرُقَةِ؟ قُلتُ: اشْتَرَيْتُهَا لكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وتَوَسَّدَهَا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ: إنَّ أصْحَابَ هذِه الصُّوَرِ يَومَ القِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فيُقَالُ لهمْ: أحْيُوا ما خَلَقْتُمْ، وقالَ: إنَّ البَيْتَ الَّذي فيه الصُّوَرُ لا تَدْخُلُهُ المَلَائِكَةُ”.
ويشرح صديق خان، هذا الحديث في كتابه “السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج”، فيقول بخصوص الملائكة: “المرادُ بالملائكةِ: غيرُ الحَفَظةِ، أمَّا الحَفَظةُ فلا يُفارِقونَ الإنسانَ، فيُحرَمُ البَيتُ الَّذي فيه تَصاويرُ بَرَكةَ دُخولِ الملائكةِ”. وهنا يظل التساؤل قائماً بالنسبة لحضور باقي الملائكة، مثل كتبة الأعمال وملك الموت؟
دلائل الاختلاف
بشكل عام، ينقسم “تحريم التصوير” إلى قسمين: تحريم التصوير في إطلاقه، وتحريم تجسيد الأنبياء على وجه الخصوص؛ وكلا النوعين فيه خلاف يمكن رصده تاريخياً، لبيان هل هذا التحريم منذ عصر النبوة أم لاحق في زمن الفقه.
1- تراجع تحريم التصوير: يمكن رصد تراجع عملية تحريم التصوير بشكل تدريجي، فمع وجود الأوراق الثبوتية، وغيرها من الأوراق الرسمية المُستلزِمة لإثبات الشخصية والزواج والطلاق وحفظ الحقوق، أصبح التصوير ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، ما ترتب عليه تجاوز حكم التحريم في هذه الأمور بالتحديد. وبقي فقط الحديث عن تحريم الأشكال الأكثر تطوراً من التصوير، مثل التصوير التليفزيوني.
لكن بعد انتشار القنوات الفضائية، ثم الإنترنت، وما ترتب على ذلك من ظهور عشرات القنوات الفضائية الإسلامية وصناع المحتوى الديني، صار عشرات من المشايخ والدعاة يقدمون برامج تليفزيونية، أو يمتلكون منابر خاصة على الإنترنت. وتدريجياً تراجع هذا الصوت أيضاً، وصار هذا النوع من التصوير يعامَل معاملة الكلام “حلاله حلال.. وحرامه حرام”.
2- تحريم تجسيد الأنبياء: يتفق غالبية أهل السُّنة على تحريم تجسيد الأنبياء؛ وبالرجوع إلى أسباب ذلك لا نجد نصاً قرآنياً أو حديثاً متواتراً، إنما فقط بعض ما أوردناه سابقاً مع آراء فقهية بتقديس الأنبياء كافة بجانب آل بيت النبي والخلفاء الراشدين.
وذلك هو ما نصَّت عليه فتوى “دائرة الإفتاء العام بالأردن”، (رقم: 1891، بتاريخ: 20-07-2011)، التي ورد فيها نص: “لقد انطبعت في أذهان المسلمين سلفاً وخلفاً على مر العصور صورة مشرقة ناصعة لأصحاب رسول الله وآل بيته الكرام، فهم الذين آووه ونصروه وحملوا معه هذا الدين وقاموا به من بعده حتى أوصلوه إلى مشارق الأرض ومغاربها بصورته السمحة النقية، وإن أي تجسيد لهؤلاء الصحابة وتمثيلهم في عمل تليفزيوني أو سينمائي من شأنه أن يغير هذه الصورة في أذهان الناس وعقولهم، ويزعزع الثقة بهم ويعرضهم للسخرية والاستخفاف، فيجعل الناس يتخيلون أن الممثل الذي يؤدي هذه الشخصية هو الصحابي نفسه، أو أن الممثلة التي تؤدي هذه الشخصية هي الصحابية نفسها”.
واختتِم نص الفتوى بتأكيد إجماع مختلف المؤسسات الإسلامية السُّنية على الرأي نفسه.
3- تاريخ رسم النبي: من الثابت تاريخياً، في عصر الخلافة العثمانية، وبالتحديد في عهد السلطان مراد الثالث (1574-1595م)، صدرت “السيرة النبوية المصوّرة” التي ضمت، كما هو واضح من الاسم، تصاوير لحياة النبي؛ فظهر تجسيد للنبي وصحابته وآل بيته، فقط كان الرسام يتجنب رسم ملامح وجه النبي.
وقد تناولت الباحثة ماجدة علي عبد الخالق الشيخة، المدرس بقسم الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، هذه السيرة المصورة بالبحث والتحليل في دراسة أثرية وصفية بعنوان “تصاوير قصة أم معبد في ضوء نسخة من مخطوط (سير النبي) بمدرسة التصوير العثماني”، وقد ضمت الدراسة عدة صفحات من مخطوط أثري لهذه السيرة.
وختاماً، نخلُص مما سبق بأنه لا يوجد أي نص قرآني يحرم التصوير صراحة بأي حال، كما تخلو السُّنة من أي حديث يُحرِّم تجسيد الأنبياء أو الصحابة وآل البيت، إنما هو التحريم العام المنصوص عليه في بعض أحاديث منسوبة للنبي. لكن بالنظر إلى التاريخ، نجد أن هذا التحريم لم يذكر أسباباً، فيما المعمول به مجتمعياً من رواج فن التصوير وأهميته الإجرائية في المصالح الحكومية لخدمة الأفراد، يؤكد أنه لا يحمل ضرراً ولا شبهة تَشبُّه بالخالق في خلق بشر، مع لفت الانتباه إلى عدم معقولية وعدم الإجماع على تفسير الآية الوحيدة التي يُستدل بها على تحريم التصوير.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.