ما منظور القرآنيين للتجديد الديني في الإسلام؟
يطرح القرآنيون أو أهل القرآن منهجاً يقولون إنه إصلاحي في فهم الدين، ويُقدِّمون رؤية يقولون إنها ثقافية وفكرية تنويرية، تعتقد أن القرآن هو مصدر الدين لتثبيت مفاهيم إيمانية أو تأسيس أحكام شرعية، أو ذِكر وقص أخبار غيبية، وهو المصدر الوحيد لفهم الدين الإسلامي ونُظمه العقائدية والتشريعية والأخلاقية، دون الحاجة إلى السنة أو الحديث بوصفه مصدراً معرفيّاً تاريخيّاً لا يصح تأسيس مفهوم إيماني أو حكم شرعي أو خبر غيبي عليه، وأنه يجب أن يُدرَس وفق رؤية قرآنية علمية منطقية.
ورغم أن هذه هي الرؤية الغالبة داخل هذه الحركة، فإن هناك من بينهم من يعتقد بأن هناك اتفاقاً جزئيّاً مع أهل السنة في مسألة العبادات، وأن الخلاف كله يمكن حصره في السنة القولية من الأحاديث والسيرة والإجماع وغيرها. وتوجد هذه الجماعة في المذهب السني فقط، ولا توجد في المذهب الشيعي، ولا يحكمها إطار تنظيمي أو حزبي أو عقائدي واحد، ولا حصر عددي، وليس لديها نهج تعريفي أو دعائي لأفكارها بصورة واضحة، إلا من خلال بعض المواقع الإلكترونية أو المدونات أو المؤتمرات، أو الظهور التلفزيوني، وهي ليست كغيرها من الحركات الدينية الساعية إلى السلطة، وترفض مقاومة الحاكم بالسلاح أو تنفيذ أعمال إرهابية، ولا تعتقد أنها الفرقة الناجية، وتُقدِّم نفسها بوصفها داعمة للسلام والتعايش بين كل الفرق والمذاهب والمجتمعات.
وتُعرَف هذه الحركة باسم القرآنيين أو أهل القرآن، وهو التعريف الإعلامي الدارج والأكثر شعبيةً من بين كل المُسمَّيات، لكنَّ مُنظِّري هذا التيار يُفضِّلون اسم “المسلمين الحنفاء”. وهذا الاسم مبني على اعتقادهم بأن الإسلام هو دين الله، وهو للناس جميعاً، وأن كل الأنبياء مسلمون، وأتباعهم مسلمون، وأن اليهودية والمسيحية والحنيفية إنما هي إلا ملل داخل الإسلام، وأنهم اختاروا الملة الحنيفية استناداً إلى الآيات القرآنية (135 من سورة البقرة، و67 من سورة آل عمران، و79 من سورة الأنعام، و120 من سورة النحل، و30 من سورة الروم، و161 من سورة الأنعام، و123 من سورة النحل، و95 من سورة آل عمران، و125 من سورة النساء، و31 من سورة الحج، و5 من سورة البينة).
أبرز المُنظِّرين
يمكن تقسيم العناصر الفكرية المؤثرة في التاريخ الحديث للحركة القرآنية إلى مجموعتين: المجموعة الأولى تضم الآباء الأوائل للفكرة في منتصف القرن التاسع عشر، الذين وضعوا القواعد الأولى لهذا النهج الفكري، والمجموعة الثانية من المنظرين، الذين يوجدون حاليّاً في العديد من الدول الأوروبية، ولعل أشهر نماذج المجموعة الأولى، ما يلي:
1- أحمد خان: ولد في الهند في عام 1817، وتوفي 1898، وعُرِف بأنه صاحب مدرسة إصلاحية دينية قائمة على تحكيم العلم أو التوفيق بين الدين والعلم؛ ما دفعه هو وأنصاره إلى إنكار بعض المصادر المعرفية الدينية (السنة) والنصوص الروائية (الحديث)، ووصفها بأنها ليست مصدراً موثوقاً به؛ لكون الكثير منها نُقِل بطريقةٍ تُخالِف العلم.
ويُعَد كتاباه “تفسير القرآن وهو الهدى والفرقان” و”تبيان الكلام”، أبرز إرثه الفكري، الذي طرح فيه أفكاره حول عملية تأويل القرآن وفقاً للحديث من المعارف.
2- غلام نبي أو عبد الله جكرالوي: الذي وُلد في باكستان عام 1830، وتُوفِّي عام 1914، ويُعَد أبرز أعلام هذا النسق العقائدي؛ إذ إنه أسَّس في عام 1902 الحركة القرآنية، ويُصنَّف على أنه من أكثر المُنظِّرين المتشددين في تاريخ الفكرة القرآنية؛ لكونه انتقل من معسكر دراسة الحديث والاشتغال به إلى معسكر نكرانه ومعارضته. وهذا الانقلاب الفكري في معتقدات الرجل، ساهم في دعم مدرسته وقوَّى من جاذبيتها.
3- غلام أحمد برويز: وُلد في الهند عام 1903 لأسرة سنية صوفية، وتُوفي في عام 1985، ويعتبره أتباع الفكر القرآني مؤلف الحركة القرآنية أو مُنظِّرها الأهم أو رائدها المعرفي الأول؛ لكونه الأكثر إنتاجاً وغزارةً، لدعم نهجه الفكري الداعي إلى تفسير عصري للقرآن. وتوسَّعت أفكاره وانتشرت خلال الخمسينيات، إلا أنها انكمشت بفعل الهجوم عليها، الذي وصل إلى التكفير.
4- رواد آخرون: يُعَد عظيم آبادي، وأحمد الدين الأمرتسري، والحافظ أسلم جراجبوري، من أبرز المنظرين الأوائل لهذا الفكر في العصر الحديث. ومن أبرز رواد المجموعة الثانية: سامر إسلامبولي، وإديب يوكسيل، وزكريا أوزون، وأصلان موسين، والشفاعي أيار، وشبير أحمد، وعلي بهزدانيا. ويعيش أغلب هذه الأسماء في أوروبا، ويمارسون نشاطهم الدعوي من خلال بعض المواقع على الإنترنت، أو من خلال اليوتيوب أو صفحات السوشيال ميديا أو الظهور التلفزيوني.
حركة فكرية
تكمن صعوبة فهم الحركة القرآنية في أنها ليست إطاراً تنظيميّاً تحكم أفرادَه أفكارٌ واحدةٌ، وإنما هي نمط فكري فردي يختلف من شخص إلى آخر، لكن تجمعهم بعض المشتركات العامة:
1- رفض مقولة تعدُّد الأديان السماوية: يعتقد المسلمون الحنفاء أن الإسلام هو دين الله، وأنه للناس جميعاً بكل مللهم، وأن الشرع الإسلامي شرع تراكمي وتواصلي وتطوري؛ بدأ نزوله بنوح، واستمر بإبراهيم وموسى وعيسى، وانتهى إكمالاً ببعث النبي محمد ونزول القرآن، الذي صار الكتاب الجامع والمكمل لما سبق، والذي قضى بختم النبوة، كما يعتقدون أن من الخطأ شيوع مقولة “تعدد الأديان السماوية”؛ وذلك لأن جميع أتباع الأنبياء والرسل دينهم الإسلام، وشرعهم إسلامي، باختلاف مللهم، ولأن مقياس الشرع الوحيد هو العلم والبينات وما ينفع الناس.
2- تباين الموقف من إنكار السنة: القرآن عند القرآنيين هو مصدر الإيمان الوحيد والنهج السليم لفهم الدين الإسلامي من العبادات والأحكام، وإن الأخذ بالسنة والحديث إنما كان سبباً من أسباب التفرقة بين المسلمين، صاحبه تأويل واسع للأحاديث التي يشككون في صحتها؛ لكونها كُتِبت بعد وفاة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بفترة طويلة، ولا تصلح لتأسيس فهم إيماني أو حكم شرعي؛ لذا يجب أن تخضع لرؤية القرآن العلمية والمنطقية. ويذهب بعضهم إلى أن فهم القرآن يجب أن يتموضع وفق الزمان والمكان ومتغيرات الأمور والعصور، وأن نهج النبي محمد نهج بشري، كان له زمانه وظروفه، ولا يصلح لأن يكون نهجاً سائداً على مر الأزمنة.
ومن جانب آخر، هناك اتجاه لإنكار السنة لكن بشكل جزئي. ويتفق نهج هذه المجموعة مع النهج السني في فهم الدين في السنة الفعلية أو العبادات، لكنه يختلف معهم في السنة القولية، خصوصاً الحديث، حتى المثبت منه؛ لأنهم يعتقدون أن الأحاديث، حتى إن كانت مثبتة، لا بد أن تخضع للمراجعة القرآنية والإعمال العقلي؛ فإن تعارضت فإنها تصبح غير صالحة للعمل بها.
3- رفض توصيفات “الفرقة الناجية” دينيّاً: لا يطرح القرآنيون أنفسهم بوصفهم الفرقة الناجية أو أصحاب الحقوق الحصرية في دخول الجنة، ويعتقدون أن فكرة الخلاص والنجاة في الآخرة ليست حكراً على أحد من أتباع أي نبي أو رسول، أو أي توجه أو انتماء بعينه، وإنما هي متاحة للجميع؛ بشرط الالتزام بالضوابط العقلية والمنطقية من العلم والإيمان والعمل الصالح.
4- نظرة عصرية للمجتمع والسلطة: عند القرآنيين، مقياس الدول ليس الإيمان أو الكفر، إنما العدل أو الظلم. وينظر الحنفاء إلى مفهوم الحاكمية على أنه ينقسم إلى نوعين: أولهما حاكمية الله، وتكون بتشريع الدين كأحكام ثابتة ومحدودة تتعلق بالحلال والحرام والواجب، وثانيهما حاكمية الإنسان، وتكون بتنظيم حركة الإنسان في المجتمع داخل دائرة المباح، كالمنع أو السماح أو التقييم أو التنظيم وفق رؤية كل مجتمع وحاجته، كما ينظر القرآنيون إلى علاقة المجتمع بالمجتمعات المجاورة على أنها قائمة على السلام وحسن الجوار والتعايش، سواء كان هناك تعاون واتفاق أو لا.
ولا يجد الحنفاء أي مانع من أن يكون رئيس السلطة التنفيذية من أي طائفة أو عرق أو نوع أو مذهب؛ لأن الحكم للدستور والقانون، ولأن لكل مجتمع صورة للسلطة تتناسب مع المرحلة الثقافية والتاريخية التي هو فيها، سواء كان نظاماً ملكيّاً أو أميريّاً أو جمهوريّاً. وأما عن موقفهم من تولي الحكم، فهم لا يدعون إلى استلام السلطة التنفيذية، ولا يريدون سوى أن تُقَاد السلطة وتقيَّد بالدستور والقانون.
5- مرونة كبيرة في مسألة الحقوق: يرى القرآنيون أن كل جماعة أو فئة من المجتمع، سواء أكانت عرقية أم طائفية، تمتلك الحق في ممارسة شعائرها التعبدية واستخدام لسانها الخاص بها؛ تعليماً وإعلاماً، شريطة أن يكون للسان العربي الأولوية والصدارة في المجتمعات الناطقة به كأكثرية، كما يرى القرآنيون أن المرأة تتمتع بكل ما يتمتع به الرجل في المجتمع، وأن كليهما أمام القانون سواء، وأن ما يحق للرجل يحق للمرأة تماماً، سواء في تولي المناصب أو التملك أو التعليم.
6- رفض تام لأية مظاهر للعنف والإرهاب: ينظر القرآنيون إلى أعمال العنف والإرهاب أو المشاركة في القتال بين فئات المجتمع الواحد في الوطن الواحد، على أنها نوع من الفتنة، وهي ممنوعة منعاً باتّاً، لكنهم لا ينفون ما تسمى المقاومة السلمية بكل صورها، ويمنعون استخدام المقاومة المسلحة ضد السلطة من المجتمع نفسه، كما ينظرون إلى المقاومة ضد العدوان الخارجي بكل صورها على أنها مباحة، ابتداءً من المقاومة السلمية إلى المقاومة المسلحة، وفق حيثيات الواقع.
الأدوار المستقبلية
يتوقَّف مدى انتشار وتأثير الحركة القرآنية في الفكر الديني الإسلامي، على مدى قدرة عناصرها على تشكيل كيان جامع، وفق إطار تنظيمي، كما كان حاصلاً في شبه القارة الهندية خلال النصف الثاني من القرن الـ19؛ بحيث يصبح تياراً إطاريّاً أكثر من كونه أفكاراً فرديةً تدور في فلك شخصي وفي دوائر معينة وملاعب معينة لها تأثيرها المحدود.
خلاصة القول: تُمثل حركة القرآنيين نسقاً دينيّاً إسلاميّاً، مغايراً ومختلفاً ومعارِضاً للنهج السني السائد، يحمل صورة الفردية لا التنظيم، ويتبنَّى خطّاً دينيّاً غير مخلوط بالسياسة، ومستقبل صعوده مرهون بمدى قدرة عناصره على تكتيل أنفسهم في كيان إطاري وتنظيمي وفكري موحد، كحال الجماعات الإسلامية التي كان لها تأثيراتها.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.