التربية الإسلامية والمفاهيم الاجتماعية الجديدة
تعدّدت الأسئلة الأخلاقية والمعضلات الاجتماعية المحدَثة في الزمن الحالي؛ فالعالَم الإسلامي قد تخطّى مرحلة الإمبراطورية الإسلامية الموسّعة من الصين إلى إسبانيا، ولم يعد الانغلاق على الذات هو الإجابة الناجعة عن الأسئلة اليومية التي يلاقيها الإنسان المسلم، مما يتطلّب إعادة النظر في وسائل التربية الإسلامية القديمة للأطفال، بما يغيّر شكل التفاعل الإنساني بين الطفل المسلم وبين العالم المتنوّع.
هويّات مختلطة
في العصور الإسلامية الأولى، وضع الفقهاء وعلماء الشرع والمفسرون، في كتب الفقه والتشريع، موانع للسفر إلى بلاد غير المسلمين، من أجل منع الاختلاط بين المسلمين وغيرهم من الديانات الأخرى، وبين العرب وبين الأعراق الأخرى، حتى لا تختلط الهويّات؛ أما الآن في العصر الحالي، فقد اختلطت الهويّات على تبايُنها، واندمجت الأعراق وتلاقت وتجاورت في كل البلدان، ومن المؤكد أن الإنسان المسلم سيتفاعل، إيجابياً وسلبياً، مع هذا التنوع العرقي الثقافي.
ولهذا، فتربية أطفال المسلمين اليوم، كتأسيس لمستقبل الإنسان المسلم، لا يصلح فيها، أو معها، التقوقع داخل الذات، والانغلاق على الهوية، وعدم التعارف والاختلاط؛ بل يجب على الوالديْن تأسيس الطفل المسلم على مفهومَي التنوع العرقي والديني، والاختلاط بين الشعوب والثقافات والأعراق والأديان، والتجاور الحميد، والتفاعل الثقافي الإيجابي، والاعتقاد بأن الأرض تسَعُ الناس جميعاً، من مختلف الديانات، ومختلف الأعراق، وأن التنوّع هو مشيئة إلهية.
المختلف عرقياً
يقول الله عزَّ وجل في كتابه العزيز، سورة الحجرات: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾ [الحجرات: 13]. ويقول الله سبحانه في سورة الروم: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ﴾ [الروم: 22]. ويقول الله تعالى في سورة المائدة: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
ورُويَ عن النبي أنه قال: “لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ من آدم، وآدمُ من ترابٍ”.
إذاً، التعارف بين الشعوب هو أحد مقاصد الشريعة الواضحة في آيات القرآن الكريم، ومع تنوّع الأعراق والإثنيات في العالم الحديث، وبالوقوف على المفاهيم الجديدة للمساواة العرقية، التي تتفق مع المفهوم الإسلامي، فإن تربية الأطفال على تلك المفاهيم من الأمور الواجبة كمسؤولية أخلاقية على العائلة المسلمة.
المختلف دينياً
يأمر الله الإنسان بالعدل والخير والإحسان، وحسن الجيرة وطيب المعاملة، والوفاء بالعهد، والحفاظ على الأمانات، واحترام الخصوصية والتكريم، وعدم البدء بالعدوان وضمان الحقوق في العموم مع كل الناس، دون تخصيص الإنسان المسلم بذلك؛ فهي إرشادات تجاه الإنسانية جمعاء، لأن الله هو رب الكون ورب البشر أجمعين. لذا يجب على الإنسان المسلم مراعاة الاختلافات الدينية، في تأسيسه أبناءه وبناته وتربيته إياهم على احترام أصحاب الأديان الأخرى، ومعاملتهم بالتسامح والاتساع الروحي اللائق، وبناء علاقة إنسانية منفتحة على الآخر.
يقول الله تعالى في سورة هود: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ﴾ [هود: 118]. ويقول الله عز وجل في سورة البقرة: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ [البقرة: 62].
الرجل والمرأة
من البدَهي أن تتغيّر نظرة الأسرة المسلمة إلى دور المرأة في العالم الحديث..
إذ تراكمت الأدبيات الفكرية التي تنظر إلى المفاهيم النسوية الجديدة، من حقوق للمرأة كإنسان يقابل الرجل ويساويه في كل شيء، من حقوق وواجبات؛ خاصة أن المرأة أصبحت قاضية ورائدة أعمال ومفكرة وكاتبة ورئيسة للبلدان؛ ومن ثم، يجب على الأسرة المسلمة مراعاة ذلك في تربية الأطفال، والمساواة بين الذكور والإناث في الحقوق والواجبات، من تعليم وتثقيف ونظرة للعالم وممارسة للرياضة وكل الجوانب الأخرى.
يقول الله تعالى في سورة النساء: ﴿وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا﴾ [النساء: 124]. ويقول عَز وجَل في سورة آل عمران: ﴿فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ﴾ [آل عمران: 195]. ويقول الله تعالى في سورة المائدة: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
بل إن الله تعالى يساوي بين الرجال والنساء في كل شيء، في الحقوق والواجبات وفي الأجر والمغفرة؛ ما يجعل تأسيس هذا المفهوم وغرسه في الطفل المسلم واجباً على الأبوين في كل أسرة مسلمة. ويقول سبحانه في سورة الأحزاب: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡراً عَظِيمٗا﴾ [الأحزاب: 35].
أسئلة أخلاقية
يعيش الإنسان المسلم الآن في زمن التطور التقني المتسارع، والاختراعات الحديثة المتماسّة مع كل مناحي الحياة العامة والخاصة، وثورة التواصل الاجتماعي وإتاحة المعلومات على شبكة الإنترنت، والذكاء الاصطناعي وتدخله في شؤون البشر وتحديد اختياراتهم.
وقد تميّز المسلمون خلال عصور الازدهار الإسلامية في العلوم والاكتشافات الحديثة، وظهر منهم المفكّر والمنظّر وصاحب الاختراع، وعلّامة الطب والهندسة والرياضيات والفيزياء، كابن سينا والفارابي وابن الهيثم والخوارزمي والبيروني، وغيرهم؛ كما تصل الأحكام الفقهية إلى أن “طلب العلم هو فريضة على كل مسلم ومسلمة”، ويجب على الأسرة المسلمة تربية أبنائها على حب العلم والتعلّم، وعلى الواجب الأخلاقي والروحي تجاه المجتمع، عبر إفادته وتطويره بالعلوم الحديثة.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز، في سورة طه: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا﴾ [طه: 114]. ويقول عَز وجَل في سورة الزمر: ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ [الزمر: 9]. ويقول سبحانه في سورة آل عمران: ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ [آل عمران: 7]. ويقول الله تعالى في سورة فاطر: ﴿إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 28].
وختاماً، يواجه الإنسان المسلم كثيراً من المعضلات والمشكلات المحدَثَة كل يوم، في هذا العالم الكبير المتنوع؛ وقد أمرنا الله باستخدام العقل في التفكير في تلك المُحدَثات؛ بسبب تأثيرها في حياة الناس واختياراتهم وأمانهم الفردي والجماعي، ويوجد واجب والتزام ومسؤولية تجاه هذا العالم الذي أخلَفَ الله تعالى الإنسان فيه، من تأسيس الطفل المسلم وتربيته منذ الصغر على الإيجابية في التفكير، والتفاعل والمشاركة البناءة في الرأي والفعل، والتفكّر والتدبّر في قضايا العصر الذي يعيشه، من اختراعات جديدة وقضايا إنسانية محدَثَة وآراء فكرية جديدة في الإنسان والموجودات، فقد جعل الله الإنسان “خليفة في الأرض”، مكلَّفاً بالتفكر والتدبر والفعل، ومجتهداً في الخير والبر والمعاملة بالحسنى، وتزكية النفس وعدم الإسراف، وحب الناس وتقوى الله في الأفعال والأقوال، وكل تلك المسؤوليات لا تستقيم دون معرفة أن الإنسان لا يحيا فرداً وحيداً في الأرض، ودون بدء تربية الأطفال على تلك المبادئ، داخل كل أسرة مسلمة.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.