النهضة الدينية:

كيف يتعامل تيار القرآنيين مع السنة؟

مركز حوار الثقافات

01-09-2024

عَرَف الفكر الديني الإسلامي، منذ وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وحتى الآن، بروز بعض التوجهات الفكرية التي تُخالِف بعض الآراء السائدة في المجتمع المسلم، بعضها اندثر واختفى، والبعض الآخر حقَّق رواجاً وانتشاراً، ومن تلك التوجُّهات التي برزت في العصر الحديث، ما ظهر تحت مُسمَّى “القرآنيون”.

ولا يُعَد “القرآنيون” حركة أو جماعة، بل تياراً يتَّسم بالتنوُّع في الرؤى والمنهجية وتعدُّد مستويات تفسير آيات القرآن، مع الاشتراك في الأصل المتمثل في أن “القرآن” المصدر الوحيد لفهم الإسلام، واستنباط الأحكام الشرعية، دون غيره.

ويُصنِّف المنتمون إلى هذا التيار أنفسهم ضمن التيار “الإصلاحي أو النهضوي”، الذي تمتد جذوره إلى قرون سابقة في تاريخ الفكر الديني، ومن القضايا الشائكة التي يتصدَّى لها هذا التيار، على اختلاف التوجهات والأفكار، الموقف من “السنة” ومفهومها ومصادرها، وحدود الاستعانة بها مصدراً تشريعيّاً.

تفنيد السنة

يمكن التعرُّض لأبرز المنطلقات الفكرية الحاكمة لهذا التيار بشأن “السنة”؛ وذلك كالتالي:

1- تعدُّد دلالات مفهوم “السنة” تاريخيّاً: يميل اتجاه داخل تيار “القرآنيون”، إلى اعتبار أن مفهوم “السنة” متعدد الدلالات؛ ولذلك لجؤوا إلى محاولة تفكيك حالة التشابك حول مفهوم “السنة”، فيُقسِّمون هذا المفهوم إلى ثلاثة مستويات رئيسية: أولاً– “السنة” بالمعنى السياسي، باعتبارها طائفة داخل المجتمع المسلم، وكان ينتمي إليها أغلب حكام المسلمين والسلاطين على مدار التاريخ، باستثناء فترة الدولة “الفاطمية”. ولا يزال هذا المفهوم مُستخدَماً حتى العصر الحديث. ثانياً– “السنة” بالمعنى الفلسفي، وهي مدرسة في علم الكلام، ويمكن وصفها بالمدرسة “التقليدية” التي تختص بالحديث عن صفات الله والقضاء والقدر، واكتسب اللفظَ تلاميذُ مدرستَين: “الأشعرية” نسبةً إلى “أبو الحسن الأشعري”، و”الماتُريدية” نسبة إلى “أبو منصور الماتريدي”. وتبرز هذه المدرسة متمايزةً عن مدرسة “المعتزلة” المتأثرة بالفكر اليوناني بدرجات مختلفة.

وثالثاً– “السنة” بالمعني الفقهي أو “الشرعي”: وتنقسم إلى الفتاوى وآراء فقهاء المذاهب الفقهية من تأليف وأحكام، إضافة إلى كتب “الحديث” مثل البخاري ومسلم، التي تتوافق مع الترتيب الفقهي لكتب فقهاء المذاهب.

2- تقديم رؤية مغايرة لمفهوم “السنة“: اعتماداً على قاعدة أن “القرآن” هو المصدر الوحيد لفهم الإسلام وأحكامه، واستناداً إلى قواعد اللغة العربية، يُفسِّر بعض المنتمين إلى تيار “القرآنيون” مفهوم “السنة” من القرآن الكريم باعتبارها “شرعاً”؛ أي تشريعاً للأحكام، مثل القول بـ”سن القوانين”.

يُحدِّد بعض الاتجاهات في هذا التيار، مواضع ذكر لفظ “السنة” في القرآن الكريم، التي جاءت في موضعين اثنين، الأول– منسوبة إلى الله حصراً: أي أن اللفظة لم تأتِ منسوبة إلى بشر؛ لا إلى رسول ولا إلى نبي، وبذلك تكون السنة في هذه الحالة هي “شرع الله”، مثلما جاء في سورة الأحزاب الآية (38)، في قوله تعالى: (مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍۢ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥ ۖ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً”. وهذه الآية – كغيرها من الآيات التي وردت في القرآن – تؤكد أن السنة إلهية، ينبغي لجميع البشر اتباعها، وفي مقدمتهم النبي محمد؛ لأنه قدوة للمسلمين.

وفي الموضع الثاني جاءت “السنة” باعتبارها منهج الله في التعامل مع المشركين، كما جاءت في سورة فاطر الآية (43) في قوله تعالى: “ٱسْتِكْبَاراً فِى ٱلْأَرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِۦ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً”.

3- التمييز بين السنة النبوية “القولية والفعلية“: يقسم تيار “القرآنيون” مفهوم “السنة النبوية” إلى قسمين كما جاءت في تراث المسلمين: الأول– القولية المتمثلة في الأحاديث المنسوبة إلى النبي محمد – وفقاً لتصورهم– التي جاءت في كتب “الحديث والسنة” منذ قرون مضت، وهي موضع تشكيك باعتبار أن النبي نهى عن تدوين أي حديث باستثناء القرآن الكريم، كما أن تدوين الحديث جاء في القرن الثاني الهجري؛ أي بعد وفاة النبي بسنوات طويلة.

والقسم الثاني– الفعلية أو “العملية”، وهي كل ما جاء عن النبي محمد من أفعال وتواترت عبر القرون حتى وصلت إلينا كما هي، وبالأخص فيما يتعلق بالعبادات مثل “الصلاة والحج والزكاة وغيرها”، ويعتبرونها “ملة إبراهيم” التي توارثها الرسول، وأُمر أن يتبعها، وأكدها القرآن كما في الصلاة.

4- اعتبار كتب “السنة” تراثاً بشريّاً غير مُقدَّس: ارتباطاً بالتمييز بين السنة النبوية “القولية” و”الفعلية”، فإن تيار “القرآنيون” يتفقون على أن كتب “السنة”، ومن بينها كتب “الحديث”، تراث بشري وليست مقدسة؛ لاعتمادها على أحاديث “آحاد” ظنية، ومن ثم لا يصح أن يقوم دين على الظن، كما أن اليقين الثابت الوحيد لا يوجد إلا في كتاب الله، وهو القرآن الكريم.

ويرى تيار “القرآنيون” أن بعض التشريعات التي جاء بها المسلمون على مدار القرون الطويلة المتعاقبة عقب وفاة الرسول محمد، وضعوها تحت مفهوم “السنة” أو “السنة المحمدية”؛ لإضفاء حالة من القدسية على آراءٍ وفتاوى لبشر.

تيارات القرآنيين

تتمثل الإشكالية الأبرز لدى تيار “القرآنيون”، رغم تعدد التوجهات والمنهجيات، فيما يُعرف بـ”إجماع أهل السنة” الذي ينطلق من كتب “الأئمة والأحاديث”. وفي المقابل، فإن ثمَّة تبايُناً في مواقف المنتمين إلى هذا التيار من السنة والتعامل معها؛ وذلك كالتالي:

1- رفض السنة القولية والفعلية معاً: يميل اتجاه داخل تيار “القرآنيون” إلى رفض السنة القولية والفعلية أو “العملية” معاً، واقتصار فهم الإسلام والأحكام الشرعية والمفاهيم الإيمانية على القرآن الكريم، باعتباره المصدر الوحيد. ولا يقر هذا الاتجاه بالسنة الفعلية المتواترة عبر الأجيال على مدار قرون، ويستثنون من ذلك ما يتعلق بالعبادات بشكل خاص، بناءً على تفسيرهم لما جاء في القرآن من آيات، مثل الصلاة.

2- إقرار البعض بالسنة الفعلية فقط: يميل أغلب المنتمين إلى تيار “القرآنيون” إلى الاعتراف والإقرار بالسنة الفعلية أو “العملية”، التي صدرت عن الرسول، وباتت متواترةً عبر القرون الممتدة منذ وفاة الرسول، كما أنها ليست مصدر تشكيك، وتحديداً فيما يتعلق بالعبادات، مثل كيفية الصلاة، وعدد الصلوات والركعات، وأداء الحج والزكاة وغيرها.

ويبقى أن ثمة اتجاهاً كبيراً داخل هذا التيار يميل إلى رفض ما يُعرف بـ”السنة القولية” المتمثلة في الأحاديث التي جاءت في كتب “السنة” والأئمة، سواء المتفق عليها أو التي جاءت في بعض الكتب دون غيرها، تأسيساً على أن القرآن يُستخدَم للدلالة على نفسه فقط، دون الحاجة إلى مصدر ثانٍ، كما أن الحديث يقتصر على ما جاء في القرآن فقط، في قوله تعالى: “فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ” (سورة المرسلات: الآية 50)، وتكرر في موضعين آخرين في الأعراف والجاثية.

ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن قضية الإيمان تقتصر على حديث الله، وهو القرآن الكريم، كما أن الله حذر من “لهو الحديث”، الذي يُضِل الناس عن الحديث الحقيقي وهو حديث الله؛ إذ إن المسلمين أضافوا بعد موت النبي بقرون أحاديث وزعموا أن النبي قالها.

3- رفض “كتب السنة” مصدراً تشريعيّاً: ترى بعض الاتجاهات داخل تيار “القرآنيون”، مثل حركة “المفكرين الحنفاء”، أن السنة القولية المتمثلة في كتب الحديث، هي مصدر معرفي تاريخي لا يصح تأسيس مفهوم إيماني أو حكم شرعي أو خبر غيبي منه، ويجب أن يُدرس وفق رؤية قرآنية علمية منطقية.

ويرى بعض المنتمين إلى هذا الاتجاه أن كتب الحديث التي تحوي السنة القولية المنسوبة إلى النبي محمد، تأتي في منزلة كتب التراث، مع التشكيك في صحة ما ورد بها، خاصةً أن تدوين الحديث كان في العصر العباسي، وسبق أن استغل المسلمون فترة الفتنة الكبرى في رواية أحاديث تُثبت صحة موقف كلٍّ منهم، حتى باتت كتب السنة تتمتع بقدسية في العصرَين المملوكي والعثماني.

4- أولوية مطابقة السنة للنص القرآني: يذهب اتجاه داخل “القرآنيون” إلى إعمال العقل في مطابقة السنة للقرآن أولاً، من خلال عرض ما جاء في كتب “التراث” على القرآن، مثل قول دكتور “محمد شحرور”: “إن السنة النبوية القولية، بمتواترها وآحادها، سواء منها ما ذُكر في كتب الحديث جميعاً أو ما انفرد أحد هذه الكتب بروايته، هي للاستئناس فقط؛ لأن السنة أحكام، والأحكام تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، طبقاً لما أجمع عليه علماء الأصول. والمعيار الوحيد للأخذ أو عدم الأخذ بأحكامها هو انطباقها على التنزيل الحكيم والواقع المَعِيش، أو تعارضها مع التنزيل الحكيم؛ فإن انطبقت أخذناها، وإن تعارضت تركناها”.

موقف مناهض

يُواجِه تيار “القرآنيون” انتقاداتٍ من قِبل بعض علماء الدين الإسلامي؛ لمواقفهم من “السنة” على وجه الخصوص، ويتم وصفهم بـ”منكري السنة”، وتم تخصيص بعض الكتب للرد على هذا التيار، مثل كتاب “شبهات القرآنيين حول السنة النبوية” للدكتور محمود مزروعة، الذي رفض توجهات هذا التيار حول مواقفهم من السنة.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة