اختلاف الآراء الفقهية بين الإجازة والمنع
تختلف الآراء الشرعية لعلماء المسلمين حول مسألة تولّي المرأة منصب القضاء، بين رافضٍ بالإطلاق ومؤيّد بشروط ومؤيد بالإطلاق. وتتعدّد التأويلات الفقهية المؤصّلة شرعياً لتلك الآراء؛ بين فريق يقول بعدم جواز تولّي المرأة منصب القضاء؛ لأنه “ليس مناسباً لطبيعتها” التي خلقها الله عليها من “عاطفة زائدة ونقص في رجاحة العقل في ما يخص أمور الولاية الصغرى من قضاء وخلافه”، فضلاً عن “طبيعتها النفسية والبيولوجية”، وبين فريق يقول بجواز تولّيها منصب القضاء مطلقاً؛ مستنداً إلى عدم وجود نص متفق عليه يقول بنقص قدرة المرأة على تولّي ذلك المنصب، وبين رأي ثالث يقول بجواز تولّيها المنصب بشروط وفي غير الحدود والقصاص.
آراء ترفض “المرأة القاضية”
تستند الآراء الرافضة، لعدم جواز تولّي المرأة منصب القضاء، إلى:
أولاً، لا يجوز للمرأة تولي المناصب “العامة”: التي تحتاج معها إلى مخاطبة الرجال عموماً، والاختلاط بهم وتكرار الخروج، مما “يحملها على إسقاط الحياء، وقلة الاحتشام”. وهكذا، فلن تتولّى الإمامة ولا الخطابة ولا المحاماة ولا القضاء، ولا المناصب التي تستلزم التردد على الدوائر التي يغشاها الرجال، وهذا حسب قول ابن جبرين.
ثانياً، نقص كمال الرأي والعقل والفطنة: كما قال ابن قدامة، في كتابه “المُغني”، بأن تولّي منصة القضاء يستلزم كمال الرأي ورجاحة العقل وحسن الفطنة.
ثالثاً، قِوامة الرجل على المرأة: فالرجال يقومون على النساء في النفقة والإمارة والقضاء، ولا يجوز للنساء أن يقُمن على الرجال، وهذا بحسب قول الماوردي، في “الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي”، وفي “الأحكام السلطانية”.
رابعاً، نَفْي الفَلَاح عمّن ولَّوا أمرهم امرأة: استناداً إلى حديث منسوب إلى النبي يقول: “لن يُفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”؛ إذ تقول هذه الآراء إنه “حديث عام” في عدم تولية المرأة الإمارة والقضاء بين الناس، وإن المرأة ليست من أهل الولايات؛ لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب، حسب قول الشيرازي الشافعي في “المهذب”، وابن قدامة في “المُغني”، وابن القيم في “إعلام الموقعين عن رب العالمين”، والشوكاني في “نيل الأوطار”.
خامساً، أن رسول الله لم يولِّ امرأة القضاء: في قول ابن العربي المالكي في “المسالك”، وابن قدامة في “المغني”.
سادساً، عدم جواز إمامة المرأة للرجال: فالأولَى عدم جواز تولّيها منصب القضاء، على قول الماوردي الشافعي في “الحاوي الكبير”، والعمراني الشافعي في “البيان”.
آراء تؤيد “المرأة القاضية” بشروط
وهي آراء المذهب الحنفي وبعض المالكية والظاهرية؛ إذ يقول الكاساني الحنفي في “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع”، والكمال بن الهمام الحنفي في “فتح القدير”، وزين الدين بن نجيم الحنفي في “البحر الرائق في شرح كنز الدقائق”، بجواز تولّي المرأة منصب القضاء “في غير الحدود والقصاص”، قياساً على الشهادة؛ فالمرأة من أهل الشهادات في الجملة، لكنها لا تقضي في الحدود والقصاص؛ لأنه لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة، ويجوز تولّي المرأة القضاء في ما دون الحدود والقصاص، أي في النواحي المالية والمدنية، وفي نواحي الأحوال الشخصية.
آراء تؤيد “المرأة القاضية” مُطلقاً
يقول ابن حزم الأندلسي الظاهري إن منع تولّي المرأة القضاء بالإجماع غير معتبر، ويقول بجواز تولّي المرأة منصب القضاء مُطلقاً، إذا توافرت فيها شروط “الأهلية من رجاحة العقل والاتزان، وسلامة الحواس، والعدالة والاستقامة، والقدرة على الوقوف أمام الباطل”.
ويقول الإمام الحسن البصري بجواز تولّي المرأة منصب القضاء مُطلقاً، إذا توافرت فيها شروط تولية القضاء التي تسري على الرجال، كما قال ذلك ابن العربي المالكي في “المسالك”، والحطاب الرعيني المالكي في “مواهب الجليل في شرح مختصر خليل”.
ويقول الإمام ابن جرير الطبري، وعبد الرحمن بن القاسم المالكي، بالجواز المُطلق للمرأة بتولي القضاء في كل الأمور دون شرط.
وقد استدلّ علماء المسلمين، القائلون بجواز تولّي المرأة القضاء مُطلقاً، في رأيهم الفقهي على عدد من الأسس:
أولاً، استناد الآراء الرافضة على الرأي: لعدم وجود نص عام قاطع الدلالة بعدم أهلية المرأة لتولّي منصب القضاء، ولا توجد أدلة شرعيّة من القرآن الكريم تقول بعدم الأهلية أو نقص العقل أو ضعف الفطنة.
ثانياً، ورود آيات من الذكر الحكيم: تدل على رجاحة عقل المرأة وفطنتها السليمة، وحسن تدبيرها وتفويض الناس لها بالأمر؛ كالآيات التي تذكر قصة ملكة سبأ في سورة النمل.
ثالثاً، تولية عمر بن الخطاب امرأة: هي الشفاء بنت عبد الله العدوية في أمور السوق، وهي ولاية عامة في الحسبة والقضاء، وتصريح بجواز تولي المرأة القضاء؛ فما يصلح أن يكون دليلاً على شرعية قضاء المرأة، يصلح أيضاً على جواز تولية المرأة القضاء.
رابعاً، حدود تطبيق حديث رسول الله: بمعنى وجوب حديث “لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة” على الموقف المعيّن الذي وَرد فيه، وليس على العام من الأمر بما في ذلك الولاية والقضاء؛ ويدخل في إطار الإخبار لا في إطار الحكم الشرعي، ولا وجوب له على ولاية المرأة عموماً.
خامساً، عدم وجود نص يمنع المرأة: من تولّي بعض الأمور؛ فإن المرأة كالرجل صالحة في الأصل لتولي الأحكام والفصل بين الناس، وهو حكم عام لا يخصصه إلا نص، والنص لم يستثنِ المرأة من أي أمر.
سادساً، جواز أخذ الفتوى من النساء: فإذا جاز أن تكون المرأةُ مُفتيةً، جاز أن تكون قاضية، قياساً؛ فمن شروط صحة فتوى المرأة أن تكون على تمام العلم بما تُسأل فيه، وكذلك يصح تولّيها القضاء بناءً على العلم بالأحكام الشرعية والقانونية.
وختاماً، فقد اختلفت الآراء الفقهية، وتباينت بين التأييد والرفض والتأييد بشروط، بشأن “المرأة القاضية”، مما يدل على عدم وجود حكم ثابت قاطع نهائي بعدم جواز تولّي المرأة منصب القضاء، وعدم وجود حكم شرعي نهائي بنقص عقل المرأة، أو عَوَار في رجاحة عقلها وسلامة تفكيرها وحسن فطنتها، ولا توجد موانع بيولوجية أو نفسية قاطعة قد تمنع توّلي المرأة منصب القضاء.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.