اختلاف الآراء الفقهية حول الإبداعات الإنسانية
اختلفت آراء الفقهاء حول مسألة الحكم الشرعي على الفن في عمومها، وكذلك حول أنواع معينة من الفنون، كالرسم والنحت والتصوير والموسيقى والغناء؛ فمنهم مَن قال بالمنع لتجنب الشبهات، كالاختلاط ومخالفة المقاصد الرشيدة، ومنهم مَن قال بالإباحة مطلقاً، ومنهم مَن قال بالإباحة مع مراعاة الشروط الشرعية لتلك الإباحة؛ فما تلك الآراء في مسألة الفن؟ وهل توجد أدلّة قرآنية على تحريم الفنون والعمل بها؟
مدخل تاريخي
تميّزت الحضارة الإسلامية منذ العصور الأولى للإسلام، وفي عصور ازدهار الإمبراطورية الإسلامية، بتنوع الإنتاج الفني من شِعْرٍ وخطابة نثرية وعمارة ورسم وزخرفة، واشتهرت أسماء الموسيقيين الكبار والمغنّين، رجالاً ونساء، كإسحاق الموصلي وابن جامع وإبراهيم بن المهدي، وكذلك في مختلف أنواع الفنون، في الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر والمغرب العربي وبلاد فارس وما بعدها؛ وبانَ أثر هذا التنوع الفني في فن العمارة من مساجد وقصور ومنازل، وقصائد الشعر والنصوص الأدبية الرفيعة؛ ومنها ما قيل في عهد النبي الأكرم، كقصائد حسان بن ثابت وكعب بن زهير والخنساء، وتوارثت الأجيال كتابات الفردوسي ونظامي الكنجوي وسعدي ومحمد الحريري صاحب المقامات، وغيرهم كثير من الشعراء وكتّاب النثر والمصنّفين والرسامين والمزخرفين والمعماريين والموسيقيين وأهل الغناء.
آراء في الفنون
تتنوع آراء الفقهاء في مسائل الفنون، بين المنع والإباحة، كالتالي:
1- رأي أبي الحسن الماوردي: يقول أبو الحسن الماوردي، وهو من فقهاء الشافعية، في مقدمة كتابه “أدب الدين والدنيا”، إن تنوع الفنون ونقل أقوال الحكماء وآداب البلغاء وأقوال الشعراء يريح القلوب ويبعدها عن السآمة والملل، ويقول نصاً: “وقد توخيتُ بهذا الكتاب الإشارة إلى آدابهما -أي الدنيا والدين- وتفصيل ما أُجمِل من أحوالهما، على أعدل الأمرين من إيجاز وبسط، أجمع فيه بين تحقيق الفقهاء، وترقيق الأدباء، فلا ينبو عن فهم، ولا يدق في وهم، مستشهداً من كتاب الله جل اسمه بما يقتضيه، ومن سُنن رسوله بما يضاهيه، ثم متبعاً ذلك بأمثال الحكماء، وآداب البلغاء، وأقوال الشعراء؛ لأن القلوب ترتاح إلى الفنون المختلفة وتسأم من الفن الواحد”.
2- رأي ابن باز: يقول ابن باز في فن الرسم، إن “الرسم له معنيان: أحدهما رسم الصور ذوات الأرواح، وهذا جاءت السُّنة بتحريمه”، حسب قوله، “فلا يجوز الرسم الذي هو رسم ذوات الأرواح”؛ وفسَّر ذلك بأنه تصوير ذوات الأرواح من الدواب والإنسان والطيور، أما رسم ما لا روح فيه، وهو المعنى الثاني، “فهذا لا حرج فيه”، حسب رأيه، كرسم الجبل والشجر والطائرة والسيارة وأشباه ذلك، لا حرج فيه عند أهل العلم، “ويُستثنى من الرسم المحرَّم ما تدعو الضرورة إليه، كرسم صور المجرمين حتى يُعرَفوا ويُقبض عليهم، أو صور الهويات، وهكذا ما تدعو الضرورة من سوى ذلك”، فإذا رأى ولي الأمر أن هذا الشيء مما تدعو الضرورة إلى تصويره، لخطورته، ولقصد سلامة المسلمين من شره حتى يُعرف، أو لأسباب أخرى، فلا بأس.
ويقول ابن باز في التمثيل وفن المسرح، إن التمثيل هو “من باب الكذب”، فأن “يمثِّل الممثِّلُ فيقول أنا عمر بن عبد العزيز، أنا عمر بن الخطاب، أنا ابن تيمية، أنا ابن القيم، يجعل نفسه ابن القيم، ويتكلم بلسان ابن القيم، أو بلسان عمر بن عبد العزيز، أو بلسان آخرين من أهل العلم، أو بلسان الصحابة، فهذا ليس بسديد، هذا كذب”، حسب رأيه، “وقد يقوله عنهم، ولا ينبغي أن يقال عنهم، وأن يمثلهم بما هم براء منه”. أما في المسرحيات “فإن كان من المسرحيات أنهم جماعة، هذا يقول كلمة، وهذا يقول كلمة، وهذا يقول أبياتاً، وهذا يقول أبياتاً، أو هذا يدعو إلى كذا، وهذا يدعو إلى كذا، يتعاونون، فهذا له حكمُه، إن كان ما يفعلونه في ما يرضي الله، وفي ما أباح الله، فلا بأس، فإن كان في ما يسخط الله، فهي منكرة ومحرَّمة”، حسب رأيه.
3- رأي صالح الفوزان: يقول صالح الفوزان بتحريم فن التمثيل مطلقاً، وعلَّل تحريمه “لما فيه من المفاسد الكثيرة”، حسب قوله، “وإن زعم أحد أن فيه مصلحة جزئية، فهي مغمورة بما فيه من المفاسد الراجحة على تلك المصلحة، ومن المعلوم أن من ترجحت مفسدته فهو حرام، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، مع أنني لا أرى فيه -يقصد التمثيل- مصلحة قط”، حسب قوله.
4- رأي ابن عثيمين: يذهب ابن عثيمين إلى إباحة فن التمثيل إذا كان مضبوطاً بالضوابط الشرعية، ولم يكن فيه شيء من المحرمات، وفيه مصلحة شرعية، فهو مباح، وأنه لا يجوز تحريم فن التمثيل مطلقاً؛ لأن “الأصل في غير العبادات الحلّ والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل أن يسَّر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحِل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم، وإذا قلنا إن هذا حرام، وقال الآخرون هذا حلال، فالقول مع المحلل إلا إذا وُجد دليلٌ على التحريم، فيجب اتباع الدليل وهذا في غير العبادات، أما العبادات، وهي ما يُقصد به التقرب إلى الله، فإن الأصل فيها المنع والتحريم؛ لأن العبادات طريق إلى الله، وهي صراط الله، ولا يمكن أن نفتري على الله ما لم يجعله طريقاً موصلاً إليه”.
5- رأي محمد الغزالي: في فن الغناء، يقول محمد الغزالي، وهو من علماء الأزهر الشريف، إن “الغناء كلام حَسَنُهُ حسَنٌ، وقبيحُهُ قبيحٌ، ومَن غَنَّى أو استمع إلى غناء “شريف المعنى طيّب اللحن” فلا حرج عليه، وما نحارب إلا غناءً هابطَ المعنى واللحن.. ولم يرد حديث صحيح في تحريم الغناء”، حسب قوله.
6- رأي محمد عمارة: يذهب الدكتور محمد عمارة، في كتابه “الإسلام والفنون الجميلة”، إلى أن “الفنون يجب أن تكون جميلة في ذاتها، وجميلة في تأثيراتها ووظائفها ومقاصدها”، مؤكداً أن “الفن الجميل مهارة يحكمها الذوق الجميل والمواهب الرشيدة لإثارة المشاعر والعواطف”، إلا أن “خروج المهارات والفنون عن المقاصد الرشيدة، يجردها من شرف الاتصاف بالجمال”.
7- رأي أحمد الطيب: يقول الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، إن “الأزهر يشجع ويساند ويدعم الفن الذي يحمل رسالة للارتقاء بالمجتمع وتغيير الواقع السيئ إلى واقع أفضل”، ويضيف بأنه “توجد أعمال فنية تثبت أنه يمكن أن تكون الرسالة قوية فتعرض للشباب جزءاً من تاريخهم وحاضرهم، وتُقدِّم لهم نماذج القدوة الصالحة من أبطال هذا الوطن وشهدائه، الذين ضحوا من أجله”، وناشد شيخ الأزهر كل صُنَّاع الدراما إلى “استثمار نجاح الأعمال الجادَّة التي أثبتت أن الجمهور يُقبل على الفن الهادف ويتأثر به حال توافره”.
8- رأي مفتي مصر: يقول الدكتور شوقي علام، مفتي جمهورية مصر العربية، إنه “لا تعارض بين الدين وبين الفنون الهادفة التي ترتقي بالإنسان، وتعالج السلوكيات والظواهر الدخيلة على المجتمع”، خصوصاً إذا ما اهتمت بتشكيل الوعي لدى الشباب وتصحيح المفاهيم الخاطئة، التي تحاول بعض الجماعات ترويجها، وأيضاً تعزيز الانتماء الوطني لدى أفراد المجتمع.
وختاماً، فإنه لا توجد نصوص قرآنية تحرّم الفنون في أيٍّ من صورها وأنواعها المختلفة؛ بل إن في آيات القرآن ما يُقِرُّ حُسن تصوير الله لخلقه، لما فيه من جمال سابغ وحنكة بالغة؛ فيقول الله تعالى في كتابه العزيز، في سورة غافر: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [غافر: 64]. كما يقول الله سبحانه في سورة المؤمنون: ﴿ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقاً ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14]؛ ما يعني، بظاهر النص، وجود “خالقين/مبدعين/مُنشئين” آخرين، ليسوا في إبداع الله بالقطع، ولكن على منواله، ما يجعل مساحة الإبداع والخلق ليست مساحة من المحرمات؛ وإلا ورد نص بتحجيم القدرات البشرية، التي وهب الله الإنسان إياها، وهذا مما لا يُقبل منطقياً. فكيف يخلق الله صوتاً حلواً ثم يحرم استخدامه؟ وكيف يخلق عقلاً مفكراً ثم يعطِّل العمل به؟
إن إبداع الفنون جزءٌ من جماليات الحياة، التي لا يأباها الله من منطلق أنه “جميل يحب الجمال”، ولا ضرر فيها لأنها تسمو بالروح والوجدان، وهذا في حد ذاته أصل من الأصول المستهدفة في بناء الإنسان وقدراته الفذة في إعمار الأرض، باعتبار الأخير مقصداً عاماً للشريعة الإسلامية.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.