اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة
مما يُثير الاستفهام والتأمل، في آن، أن مفهوم “الحور العين” ارتبط عند كثير من المفسرين والرواة والإخباريين القدماء بمفهوم “جنسي” بحت؛ فـ”الحور العين” في تفاسيرهم وأخبارهم كائنات في شكل نساء خلقهن الله تعالى وأعدّهن ليتمتع بهن أهل الجنة من الرجال. وقد أسهب المفسرون والرواة في وصفهن في كتبهم ورسائلهم، مُفصلين أعمارهن وأشكالهن وجمال أصواتهن، وحتى لون بشرتهن ودرجة شفافية جلودهن.
ومن ثم، يكون التساؤل: هل من منحىً آخر لإعادة الرؤية في ماهية الحور العين؟ أم: هل يوجد توافق بين الحقيقة القرآنية والرؤية الأسطورية للمفسرين؟
نماذج تفسيرية
يعتمد عموم المسلمين في العالم الإسلامي في فهمهم القرآن الحكيم على التفاسير، المشهورة والمؤسسة للرؤية الرائجة لمعاني الكتاب الكريم، التي لم يعتمد المسلمون غيرها في الوثوق وأخذ المعاني والأحكام، مثل تفسير ابن كثير والطبري والقرطبي وغيرهم من المفسرين.
فكيف تناول هؤلاء المفسرون مسألة “الحور العين”؟
أولاً، تفسير الطبري: عند الطبري هي نقية بياض العين، شديدة سوادها؛ والعين جمع عيناء، وهي نجلاء العين في حسن، وهنّ في صفاء بياضهنّ وحسنهن، كاللؤلؤ المكنون.
وينقل الطبري عن المحدّثين والرواة أن الحور العين قد خُلِقنَ من الزعفَران، وأنهن ثواب لأهل الجنة من الرجال من عند الله تعالى، بسبب أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا، وعوضاً عن طاعتهم إياه.
ثانياً، تفسير ابن كثير: يذهب ابن كثير في وصفه الحور العين أنهنّ كاللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه، وأنهن من أتحَف الله بهن أهل الجنة من الرجال مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل. ويخبر ابن كثير في تفسيره بأنهنّ قد يكنّ ممّن يطوف بهنّ الولدان المخلّدون على أهل الجنة من الرجال، ولكن يكون ذلك في قصورهم وخيامهم وليس بين بعضهم.
ثالثاً، تفسير القرطبي: يصف القرطبي الحور العين بأنهنّ لم تمسّهن الأيدي ولم يقع عليهن الغبار، فهنّ أشدّ ما يكنّ صفاء وتلألُؤاً، أي هُنّ في تشاكُلِ أجسادهِنّ من الحسن في جميع جوانبهنّ، حسب قول القرطبي.
لكن القرطبي المفسر يزيدنا من التفاصيل فيقول “إن الله قد خَلَقَ الْحُورَ الْعِينَ مِنْ أَصَابِعِ رِجْلَيْهَا إِلَى رُكْبَتَيْهَا مِنَ الزَّعْفَرَانِ، وَمِنْ رُكْبَتَيْهَا إِلَى ثَدْيَيْهَا مِنَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ، وَمِنْ ثَدْيَيْهَا إِلَى عُنُقِهَا مِنَ الْعَنْبَرِ الْأَشْهَبِ، وَمِنْ عُنُقِهَا إِلَى رَأْسِهَا مِنَ الْكَافُورِ الْأَبْيَضِ، عَلَيْهَا سَبْعُونَ أَلْفَ حُلَّةٍ مِثْلُ شَقَائِقِ النُّعْمَانِ، إِذَا أَقْبَلَتْ يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهَا نُوراً سَاطِعاً كَمَا تَتَلَأْلَأُ الشَّمْسُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِذَا أَدْبَرَتْ يُرَى كَبِدُهَا مِنْ رِقَّةِ ثِيَابِهَا وَجِلْدِهَا، فِي رَأْسِهَا سَبْعُونَ أَلْفَ ذُؤَابَةٍ مِنَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ، لِكُلِّ ذُؤَابَةٍ مِنْهَا وَصِيفَةٌ تَرْفَعُ ذَيْلَهَا وَهِيَ تُنَادِي: هَذَا ثَوَابُ الْأَوْلِيَاءِ”.
تساؤلات مشروعة
لمسألة الحور العين عديدٌ من التساؤلات والنقاط النقدية المشروعة للتفسير المنتشر بين عموم الناس من المسلمين:
أولاً، كائنات جنسية: الرؤية الجنسانية المحدودة وحصر تأويل “نعيم الجنة” في المنحى الجنسي، أي في كون تلك الكائنات التي خلقها الله تعالى، “الحور العين”، مجرّد وسيلة للمتعة؛ بل، وكونهنّ مجرد متاع خالص ومكافأة جنسية لأهل الجنة من الرجال. رغم هذه الرؤية، لَم يرد في القرآن الكريم ما يؤكد ذلك.
ثانياً، ضعف الروايات: اعتماد المفسرين على الإخباريين والمحدّثين والرواة بالنقل والعَنْعَنَة في شرح وتفسير كُنه الحور العين، لا بد وأن يُثير التساؤلات حول مدى مصداقية تلك الأخبار والروايات، وما المصدر المؤصَّل لذلك الوصف المفصّل لشكل الحور العين، ولون جلودهن وملابسهن وأدوارهن في الجنة. هذا، رغم أن آيات الذكر الحكيم لم توضّح كل تلك التفاصيل التي يسهب في وصفها المفسرون.
ثالثاً، الاستخدام الدَّعَوي: ارتبطت فكرة المكافأة عند الانتحاريين التكفيريين، منذ عهد طائفة الحشاشين وحتى تنظيم الدولة في العراق والشام “داعش”، بفكرة الحور العين التقليدية المأخوذة عن الرواة والإخباريين والمحدثين، بكونها المكافأة التي تنتظرهم أولاً بعد موتهم في تفجيراتهم الانتحارية، (استشهادهم) كما يزعمون؛ وهو ما يُثير التساؤلات حول استخدام الوازع الجنسي في الدعوة التكفيرية، واستخدام التأويلات والتفاسير القاصرة على النظرة الجنسانية.
توجهات مختلفة
لا يقتصر معظم التفسير القرآني على المنحى الجنسي في التأويل لآيات الذكر الحكيم، ففي تأويل الحور العين عديد من الرؤى والآراء المختلفة، عن أدوارهن وعدم اقتصارهن على كونهن مكافأة للرجال من أهل الجنة فقط، ومن تلك الرؤى:
أولاً، للرجال والنساء: يوجد تفسير لغوي للحور العين في “لسان العرب” لابن منظور، بأنه جمع لرجال، كل واحد منهم أحوَر أعين، وحور عين هو جمع لنساء، كل واحدة منهنّ حوْراء عيْناء؛ ويقول التأويل إن الله سبحانه وتعالى يكافئ الاثنين، الرجال والنساء، الرجال بحور عين من النساء، والنساء بحور عين من الرجال، وذلك من عدل الله في ما يعطيه للمؤمنين والمؤمنات في الجنة؛ لأن الله تعالى قد نفى الظلم عن ذاته العَليّة.
ثانياً، نساء أهل الجنة: تأويل الدكتور محمد هدايت، الذي يقول إن الحور العين هن من نساء الدنيا التقيّات القانتات، اللاتي يكافئهن الله تعالى في الآخرة كما يكافَأ بهن الرجال الأتقياء من أهل الجنة، أو هنّ من النساء اللاتي لم يُعرف لهنّ أزواج في الدنيا.
ثالثاً، الحور العين ليست نساء: تأويل محمد عابد الجابري وكريستوف لوكسنبرغ، ومؤداه أن الحور العين ليست أصلاً كائنات عاقلة من النساء؛ بل هي أحد انواع الفاكهة الموجودة في الجنة، وقال بعض المفسرين إنها نوع من العنب الأبيض لم تره عين في الدنيا وليست لها علاقة بالنساء أو الرجال.
رابعاً، اتجاه غير جنساني: يرى بعض المفسرين القدماء والمُحدَثين أنه لا يوجد طابع جنساني للمتع الأخرويّة في الجنة، كالأصفهاني والرازي اللذين يقولان بكون طبيعة الأشياء في الجنة تختلف كلياً عنها في الحياة الدنيا، بلا أي نوع من الجنسانية أو التفرقة الجنسية بين الرجل والمرأة، اعتماداً على فكرة أنه لا شيء في الجنة يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء، فهو تشابه في الأسماء واختلاف في الحقائق؛ وحتى فكرة الزواج لأهل الجنة هي عندهم فكرة اقتران بين أرواح ونفوس، وليست فكرة مادية جسدية؛ لأن استخدام الألفاظ الدنيوية في القرآن يكون على سبيل الصوَر المجازية.
وختاماً، نرى عديداً من التأويلات والتفسيرات غير الجنسانية لفكرة الحور العين في آيات الذكر الحكيم، لا تقتصر على المعنى الدنيوي للأشياء، اعتماداً على أن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وأن الجنة ليست كالدنيا في ماديتها وتأويلاتها المباشرة المحدودة.
وإذا مَدَدنا تلك التأويلات الجديدة على استقامتها، وطبّقنا منهجيتها في إعادة تفسير آيات القرآن الكريم، فسنجد كثيراً من الأفكار والمعاني المثيرة للتفكير والتساؤل حول الطريقة المادية القاصرة في التأويل والرؤية، فلا نجد آية في الكتاب الحكيم تؤيّد تلك الرؤى والتفاسير والتأويلات الحسّيّة الجنسانيّة للمتع الأخروية، في جنة الله التي وعدنا بها إذا اتبّعنا كلمة الحق المنزّلة على النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا الزمن الحالي، فمن الواجب علينا، نحن المسلمين، أن نبذل الجهد الكافي حتى نفهم كلمة الحق بالبحث والتأويل الذي يرقى خُلُقياً وروحياً إلى مرتبة كتاب الله الأعظم.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.