الحوار السلمي:

كيف نظم القرآن الكريم العلاقة بين مختلف الديانات؟

مركز حوار الثقافات

01-09-2024

لم تكن رسالة الإسلام المُنزّلة من الله تعالَى مقصورة على العرب وحدهم، بل كانت رسالة سماوية للناس كافّة، من كل المِلَل والنِّحَل؛ رسالةٌ نزلت على عالَمٍ متنوّع الأعراق والديانات. وقد نظّم الله تعالى طريقة التعايش اليومي مع أصحاب الديانات والمعتقدات الأخرى، واضعاً القواعد التأسيسية العامة التي يجب أن ننظر بها إلى العالَم المتنوّع، وموضحاً الأحكام المُفصّلة في آيات محكمات تنظّم السلوك التعايشي السلمي مع الآخر، المختلف دينياً في كل مكان وزمان.

قواعد تأسيسية

وردت آيات الله البيّنات في القرآن الكريم، لتوضيح طريقة النظر إلى العالَم المتباين الذي نعيش فيه؛ وتؤسس لما يُمكن أن يطلق عليه “سُبُل التعايش” بين مختلف الأديان، وذلك عبر مجموعة من القواعد:

أولاً، إقرار التنوع والاختلاف بين الناس: يخبرنا الله سبحانه وتعالى، في أكثر من آية قرآنية، أن الله قد خلق هذا العالم مؤسَّساً على الاختلاف والتنوع بدايةً، كقاعدة عامة نبدأ منها النظر إلى الكون المحيط بنا؛ ثم نرى كيف نتعامل مع المختلف دينياً عنا. ففي سورة الحجرات، يقول الله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ” [الحجرات: 13].

تُقِرُّ الآية الكريمة التنوّع والاختلاف كأساس لما خلقنا الله عليه، وتوضح السبب في ذلك بكلمة واحدة “لِتَعَارَفُوٓاْۚ”، ثم تضَعُ معيار الأفضلية عند الله سبحانه وتعالى “إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ”.

ويخبرنا الله تعالى في موضع آخر من كتابه الحكيم، بأن اختلافنا هو إحدى آياته جلَّ شأنه، فيقول عزَّ من قائل: “وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ” [الروم: 22].

ثانياً، إقرار حرية البشر في الاختيار: القاعدة الثانية التي أنزلها الله في كتابه الحكيم، التي يجب أن نعتمدها حين التأمل والنظر إلى العالَم، هي الإرادة وحرية الاختيار، اختيار الإيمان أو الكفر. وبالتالي، اختيار الدين الذي ينتمي إليه أي إنسان بناءً على إرادته الحرة واختياره، خاصة أنه سبحانه وتعالى لم يجعل الإكراه وسيلة للدخول في الإسلام بأي حال؛ ففي سورة يونس، يقول الله سبحانه وتعالى: “وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعاًۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ” [يونس: 99].

وفي موضع آخر من القرآن الحكيم، يضع الله تعالى قاعدة حرية الاختيار واضحة بلا التباس ولا مواربة؛ فيقول في سورة البقرة: “لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [البقرة: 256].

ثالثاً، إرجاء الحكم النهائي لله في الآخرة: توضح الآيات المحكمات عن رب العالَمين أن الحُكم النهائي، في معتنقي مختلف المِلل والنِّحَل، وحتى في المشركين، هو لله سبحانه وتعالى في الآخرة، بما يستتبع أن الحياة الدنيا هي “دار التعايش” مع مختلف تلك الأديان والمعتقدات أياً كانت، فيقول سبحانه في سورة الحج: “إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” [الحج: 17].

رابعاً، إقرار الحكمة الإلهية من تلك القواعد: لم يترك الله سبحانه وتعالى لنا مجالاً للحيرة في أمر الاختلاف الديني والتنوع العقَدي وأسبابه؛ فالله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وأكرمه بالتكليف والاختيار والإرادة، حتى يتخذ الإنسان طريقه إلى الله حُراً دون إكراه ولا إجبار. وأوضح لنا الله تعالى في أكثر من آية من كتابه الحكيم الحكمة الإلهية من تلك القواعد؛ فيقول في سورة المائدة: “وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ” [المائدة: 48].

توضح لنا الآية الكريمة أن الاختلاف هو اختبار من الله سبحانه وتعالى، لنا ولإرادتنا الحرة التي أكرمنا بها، ووضع الله لنا الطريق إليه “فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ”. ويؤكد الله هذا الاختبار لاختيارنا الحر، في سورة الأعراف، فيقول عزَّ وجل: “وَقَطَّعۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أُمَمٗاۖ مِّنۡهُمُ ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنۡهُمۡ دُونَ ذَٰلِكَۖ وَبَلَوۡنَٰهُم بِٱلۡحَسَنَٰتِ وَٱلسَّيِّـَٔاتِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ” [الأعراف: 168].

سُبُل التعايش

بعد أن وضع الله لنا القواعد التأسيسية العامة، في النظر إلى العالَم المتنوع حولنا، أوضح لنا القوانين والإرشادات الروحية للتعايش السلمي وحُسن العشرة والجوار بين مختلف الأديان والمعتقدات، في آيات بيّنات شارحات لشكل ذلك التعايش.

أولاً، أُسلوب الحوار: تُقِرُّ لنا آيات الذكر الحكيم في أكثر من موضع، طريقة وأسلوب الحوار التي يجب أن نتّبعها مع المختلفين دينياً، وتوضح لنا أن الحوار والنقاش حتى حول المسائل الدينية يجب أن يكون سلمياً ووقوراً وهادئاً، دون نزوع إلى التطرف والكراهية والعنف؛ حيث يقول الله سبحانه، في سورة العنكبوت: “وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ” [العنكبوت: 46].

ينفي الله سبحانه وتعالى أي طريقة أخرى للحوار إلا الحسنى “إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ”، في صيغة قرآنية آمرة وجلِيَّة، لا تقبل إلا استثناء الظلم، أي الاعتداء والنزوع إلى العنف والعدوان، أما دون ذلك فلا حوار إلا بالحسنى والسلمية التامة.

ثانياً، المعاملات الدنيوية: يأمرنا الله سبحانه بالعدل والقسط والبِرِّ في المعاملات المختلفة مع كل الأديان والمعتقدات في كل زمان ومكان، واضعاً الشرط الاستثنائي لمخالفة ذلك بأمره تعالى، فيقول في سورة الممتحنة: “لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ” [الممتحنة: 8].

ويخبرنا الله في هذه الآية الكريمة بأن طريقة المعاملة مع الآخر يجب أن تكون بالبِرِّ والقِسط، أي بالخير والعدل، وأوضح لنا الاستثناء من ذلك، وهو أن يقاتلنا الآخر في ديننا أو يخرجنا من ديارنا؛ فيقول سبحانه في الآية الكريمة التالية مُباشرة: “إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ” [الممتحنة: 9].

أما اختلافنا الديني والمذهبي، فليس سبباً بأي شكل في عدم المعاملة بالخير والعدل.

وختاماً، فإن الله تعالى قد أنزل رسالته الخاتمة على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام في الجزيرة العربية، وسط مجتمع متعدد الأديان من مجوس ومسيحيين ويهود وصابئة وعُبّاد أصنام؛ وأمر سبحانه الرسول الكريم بالدعوة في الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يأمره بالقتال إلا للمعتدين.

ولم يكن الدين الحنيف لينتشر بين الناس إلا بالحسنى، والله تعالى يقول لنبيه الكريم “وَلَوۡ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ” [آل عمران: 159]، توضيحاً من الله تعالى للطريقة التي يرضى عنها سبحانه في الدعوة ونشر كلمة الإسلام، وهو ما نحتاج إليه في زماننا الحالي متعدد الأديان والمعتقدات بما يفوق عصر النبوة المكرمة، ووسط كم التناحر والإقصاء والتكفير والعنف الذي بلَغَهُ عالمنا الحالي.

إن طريق الحوار السلمي بالحكمة والموعظة الحسنة، والمعاملة بالحسنى والخير والعدل التي أقرها القرآن الكريم، هو الطريق الوحيد لضبط الكراهية والنزوع إلى العنف والقتل على الهوية الدينية في عالم متعدد ومختلف.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة