استغلال جماعات التطرف المصطلح لخدمة الإرهاب
يُثير مصطلح الجهاد الإسلامي، بمعناه الذي استغلته الجماعات المتطرفة والتيارات الإسلاموية.. يثير، إشكاليات كبرى في التعامل مع غير المسلمين أو حتى المسلمين المُخالفين لتوجهات هذه الجماعات. بل ويُثير المخاوف على المستوى الوطني والمستوى الدولي؛ إذ تبدي دول عدة مخاوف كبيرة من هذا المصطلح، خصوصاً بعد تفشي مفهوم الجماعات المتطرفة للجهاد، واستخدامه في تبرير نشاطها الإرهابي واستهداف الأبرياء من المسلمين أو من غيرهم.
ونتيجة الإشكاليات الناتجة عن الاستخدامات السلبية لمفهوم الجهاد، سواء من الجماعات الإسلاموية المتطرفة، أو من المتخوفين منه على مستوى الأفراد والدول؛ تتبدى ضرورة توضيح مفهوم الجهاد، والنظر إليه بعين غير تقليدية، وتقديم المصطلح بشكل حداثي يستند إلى أدلة يقينية، مع تمحيص النظرة التراثية التقليدية للجهاد التي تسببت في تلك الإشكاليات.
تضارب المعاني
اقتصر اعتماد التيارات الإسلاموية في تعريف الجهاد على ما يخدم أغراضها، استناداً إلى أحاديث وآراء من التراث تؤيد وجهة نظرها في تبرير الاعتداء والقتل؛ وذلك في تجاهل تام لوجود وجهات نظر متعارضة في التراث ذاته.
أولاً، اعتماد أقوال فقهاء وتجاهل ما يناقضها: اعتمدت التيارات المتطرفة على آراء بعض الفقهاء، متجاهلين ما يناقضها من آراء أخرى تستند إلى بعض الأحاديث. فقد ورد في “النهاية في غريب الحديث لابن الأثير” أن الجهاد هو: “بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار المعاندين المحاربين، والمرتدين، والبغاة ونحوهم؛ إعلاءً لكلمة الله تعالى”. كما عرَّف ابن إدريس البهوتي في كتابه “كشف القناع عن متن الإقناع”، الجهاد بأنه: “قتال الكفار خاصة بخلاف المسلمين من البغاة وقطاع الطريق، وغيرهم، فبينه وبين القتال عموم مطلق”. وأورد ابن تيمية في “جامع المسائل” أن: “الجهاد تحقيق كون المؤمن مؤمناً، ولهذا روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق).. فمن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو نقص من إيمانه الواجب عليه بقدر ذلك، فمات على شعبة نفاق”.
ثانياً، تصدير الجهاد واقتصاره على القتال: بمثل التعريفات السابقة صدَّرت الجماعات الإسلاموية مفهوم الجهاد بأنه اقتصار على القتال والحرب، دون النظر إلى تناقض مثل هذه الرؤي مع أحاديث تتنافى مع هذه المصطلحات. فقد جاء في “الزهد الكبير” للبيهقي، و”تاريخ بغداد” للخطيب البغدادي، و”تاريخ دمشق” لابن عساكر، وغيرهم، حديث: “قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَزَاةٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَمٍ، وَقَدِمْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الأَكْبَرِ. قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الأَكْبَرُ يَا رَسُولَ اللَّه؟، قَالَ: مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاه”.
وفي نفس المعنى، جاء في “الأدب المفرد” للبخاري، و”مسند” أحمد بن حنبل، و”مسند” أبي داود الطيالسي، وغيرهم، حديث: “جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الْجِهَادَ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ”. كما جاء أيضاً في “الأدب المفرد” للبخاري، الحديث: “أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟، قَالَ: الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟، قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟، قَالَ: ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”. وأورد الحافظ أبو بكر عبد الرزاق في “المصنف” الحديث: “أَفَلا أَدُلُّكَ عَلَى جِهَادٍ لا قِتَالَ فِيهِ؟، قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ”. وروى زيد بن علي زين العابدين في مسنده، مرفوعاً عن علي بن أبي طالب: “الِاكْتِسَابُ مِنَ الْحَلَالِ جِهَاد، وَإِنْفَاقُكَ إِيَّاهُ عَلَى عِيَالِكِ وَأَقَارِبِكَ صَدَقَةٌ، وَلَدِرْهَمٌ حَلَالٌ مِنْ تِجَارَةٍ أَفْضَلُ مِنْ عَشَرَةٍ حَلَالٍ مِنْ غَيْرِهِ”.
ثالثاً، تبرير سلوك العنف وقتل الأبرياء: اقتصار التيارات الإسلاموية والجماعات المتطرفة على هذه الآراء، دون عرض ما يُناقضها، هدفه تبرير العنف وقتل الأبرياء من المسلمين وغير المسلمين؛ فصدَّروا أحاديث وآراء لفقهاء تدعوا للحرب والقتال، وتجاهلوا ما جاء في نفس الباب من معاني مختلفة للجهاد، مثل أن الجهاد هو جهاد النفس والهوى “جهاد العبد هواه”، ضد المعاصي والذنوب وإلزامها بالحَسن من الفعل والأخلاق، كما أن بر الوالدين جهاد “ففيهما فجاهد”، وتأدية العبادة جهاد: “عليك بالحج والعمرة”. بل شمل الجهاد مناحي الحياة مثل اكتساب الرزق الحلال، والإنفاق على العيال والأقرباء، والتجارة في الحلال جهاد.
إلا أن التيارات الإسلاموية وجماعاتها المتطرفة، عمدت إلى تجاهل المعاني الرئيسة والتطبيقات الفعلية؛ فضيقوا المصطلح الواسع، الذي يشمل مناحي جهاد النفس وجهاد العبادة وجهاد الأخلاق والجهاد الحياتي ككسب الرزق بالحلال والسعي في الأرض، وتركوا الجانب الأكبر من الجهاد الشامل ومعناه الروحي، واقتصروا به على القتال دون غيره الذي أكد عليه النبي عليه الصلاة والسلام نفسه بالجهاد الأكبر وهو جهاد النفس.
الجهاد بين اللغة والقرآن
1- المعنى اللغوي للجهاد: يعرف “لسان العرب” الجهاد لغة بأنه: “من الجَهد والجُهد، والجَهد بفتح الجيم المشقة والجُهد بضم الجيم بمعنى الطاقة”؛ ويشترك “مختار الصحاح” في نفس المعنى فالجهاد “مصدره جهد، والجُهد بضم الجيم الطاقة، وفي القرآن ﴿وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ﴾ [التوبة: 79]، والجَهد بفتح الجيم المشقة، يقال جَهَدَ دابته وأجهد إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها، وجهد الرجل في كذا أي جد فيه وبالغ”. يحمل المعنى اللغوي للجهاد، إذاً، عمومية تتضمن الاجتهاد والجد في الفعل، وبذل الجهد والطاقة بشكل عام.
2- الجهاد والقتال في القرآن: بلغت فترة الرسالة النبوية 23 عاماً، وفُرِض القتال بعد أكثر من نصفها الأول، في السنة الثانية من الهجرة، أي بعد 15 عاماً من بدء الرسالة النبوية، منها 13 عاماً في مكة فترة الدعوة المكية كاملة، إضافة لعامين في الفترة المدنية دون جهاد. ثم جاء فرض القتال، حينما نزلت الآية الكريمة ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39]؛ وتوضح الآية الكريمة أن السبب في القتال لرفع الظلم الواقع من قِبل المشركين وضرورة دفعه.
فالأمر بالقتال جاء بعد انقضاء ما يزيد عن حوالي “65%” من عمر فترة الرسالة، ما يدل على أن الأساس في الدين هو التربية والإعداد والتوجيه، وإنشاء المجتمع المسلم، والتزام مُثل الإسلام وقيمه العليا والروحية.
3- جهاد البادئ بالعدوان والظلم: تجاهلت الجماعات المتطرفة الشروط التي وضعها القرآن صريحة لا مراء فيها؛ إذ إن القرآن أوجب شروطاً للجهاد، مثل أن يكون ضد الذين يقاتلون المسلمين، ويبدأوا القتال ضد المسلمين، والاعتداء على بلاد المسلمين، ويمنع التجاوز والاعتداء والظلم، وذلك كما في قوله سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]؛ فلا قتال إلا لمن بدأ بالقتال والظلم، والقتال لرد الاعتداء ورفعه.
4- عدم جواز قتال المُعاهدين: شدد القرآن الكريم على عدم جواز القتال ضد غير المسلمين، الذين بينهم وبين المسلمين معاهدات، حتى لو كانوا مشركين. ويُقرر التنزيل الحكيم هذا المبدأ الرئيس، في قوله تعالى: ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ثُمَّ لَمۡ يَنقُصُوكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَمۡ يُظَٰهِرُواْ عَلَيۡكُمۡ أَحَدٗا فَأَتِمُّوٓاْ إِلَيۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 4]؛ فلا قتال ضد مُعاهد حتى ولو كان مشركاً، بل دعا بشدة إلى إتمام العهد والوفاء به.
ولا يجب البدء بالقتال ضد من لم يبدأ به، أما من رغب في السلام فلا رد عليه إلا بالسلام، فقال الله عزَّ وجل: ﴿… فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا﴾ [النساء: 90].
5- لا جهاد إلا بإذن الحاكم: ربط الإسلام الجهاد بمعنى القتال بإذن ولي الأمر “الحاكم”، فإذا أمر الحاكم بالجهاد أصبح الجهاد واجباً، وبالطريقة التي تحددها الدولة ويقرها الحاكم، عبر الجيوش الرسمية ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ…﴾ [التوبة: 38]. وأكد النبي عليه الصلاة والسلام ذلك المعنى، في حديثه الذي رواه أحمد بن حنبل في مسنده “لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا”.
كما لا يجوز الجهاد الفردي مُطلقاً، ولا الجهاد دون إذن الحاكم، وفقاً لفتوى دار الإفتاء المصرية (رقم 2389): “… أما الخروج الفردي للجهاد بغير إذن ولي الأمر فلا يجوز، ومفسدته أكثر من منفعته…”. كما وضعت الفتوى نفسها شرط إذن الوالدين للجهاد، بمعنى القتال: “… بالإضافة إلى عدم جواز خروج الإنسان للجهاد بغير إذن الوالدين، إن كانا على قيد الحياة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام لرجلٍ هاجر إليه من اليمن: (هل لكَ أحدٌ باليمن؟) قال: أبواي، قال: (أَذِنَا لَكَ؟)، قال: لا، قال: (ارجِع إليهما فاستأذِنْهُمَا، فإنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبرَّهُمَا)؛ وذلك لأن الجهاد فرض كفاية وبر الوالدين فرض عين، وفرض العين مقدمٌ على فرض الكفاية قطعاً”. فلا يصح الجهاد إلا عبر منافذه الشرعية، وهو ما تحدده الدولة والحاكم وعبر المؤسسات الرسمية للدولة المتمثلة في جيوشها، ومع ما يتناسب ومصلحة الدولة.
إشكالية المصطلح
توجيه الجماعات المتطرفة والتيارات الإسلاموية للجهاد، وإفراغه من معناه القرآني، واللجوء لأقوال تراثية وتجاهل ما ينافيها، وغض البصر عن التناقضات الواضحة في هذه الأقوال، يهدف إلى إيجاد تأصيل شرعي للجرائم التي تمارسها تلك الجماعات، لتبرير استباحة دماء المسلمين وغير المسلمين وأعراضهم في ديار الإسلام وغير المسلمين في البلاد الأخرى، وتبريره ضد المسلمين أنفسهم وجعله واجباً مقدساً رغم رفض القرآن ذلك صراحة؛ بما يحتاج إلى جهد كبير لإعادة المصطلح إلى أصوله القرآنية وإفراغه من إشكاليته.
هذه الرؤية المتطرفة، المُتغاضية والمُغايرة للرؤية القرآنية، التي وضعت أسساً وقواعد للجهاد سامية، تسببت في نشر مفاهيم خاطئة عن الدين الإسلامي لدى غير المسلمين، سواء كانوا أفراداً أو دولاً، وشوهت المصطلح لدى المسلمين أنفسهم؛ الأمر الذي يستلزم جهداً جماعياً حداثياً لتفريغ المقولات الإرهابية حول الجهاد من مضمونها وبيان تهافتها. كما أن هناك حاجة ملحة لإفراغ مصطلح الجهاد من إشكاليته، ورده إلى أصوله الشرعية في القرآن الكريم، لا سيما وأن النظرة التراثية بشكل عام للجهاد، وتناول التيارات الإسلاموية وجماعاتها المتطرفة لمصطلح الجهاد بشكل خاص، لا تخلو من تناقض واضح.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.