هشام شرابي:

مركزية النقد الحضاري للمجتمع العربي

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

المشروع الحضاري للمفكر والمؤرخ أمريكي الجنسية فلسطيني الأصل، هشام شرابي، استخدم فيه المنهج العقلي الذي يتجاوز التفسير والتحليل والتفنيد للعالم العربي ومجتمعاته، إلى التحرر من السمات السلبية، ثم بناء منظومة عقلية حداثية مجتمعية تحقق الهدف النهضوي له.

“شرابي”، مؤسس مركز الدراسات العربية المعاصرة، في جامعة جورج تاون الأمريكية، الذي شغل فيه منصب أستاذ جامعي، استند مشروعه الحداثي إلى مركزية فكرة النقد الحضاري، التي عبَّر عنها في معظم أعماله الفكرية والأكاديمية، ومنها: “مقدمات لدراسة المجتمع العربي”، و”المثقفون العرب والغرب”، و”النظام الأبوي”، و”النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين”؛ إضافة إلى عديد من الدراسات الأكاديمية والمقالات العلمية التي صدرت باللغتين العربية والإنجليزية.

أزمة مجتمعية

1- أزمة المجتمع العربي الحضارية: يذهب “شرابي” إلى أن المجتمع العربي واقع في أزمة حضارية، وتجاوُز هذه الأزمة يستلزم منهجاً نقدياً تحليلياً للمجتمع في بُعديه التاريخي والاجتماعي، الأمر الذي أوضحه في كتابه “النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين”، فيقول: “إذا أردنا لمجتمعنا العربي أن يتجاوز أزمته وأن يسترجع قواه ويدخل مجرى التاريخ، فلا بد من عملية نقد حضاري تتمكن من استعادة العقلانية وتساعد على وجود وعي مستقل بالذات”، حسب قوله.

2- سمات المجتمع المعاصر: وصف “شرابي” المجتمع العربي بشقيه التراثي والمعاصر بسمات سلبية، منها: أنه مجتمع أبوي ينزع نحو الاستبداد، ويعاني التبعية التراثية للقديم، والتبعية المعاصرة للحضارة الغربية؛ كما أن من سماته التخلف والعجز عن اللحاق بركب الحضارة الغربية العالمية، ولا يمكن إحداث النهضة العربية إلا بالتخلص من هذه السمات السلبية، عبر استخدام النقد الحضاري، حسب قوله.

3- القضاء على السيطرة الأبوية: يدعو “شرابي” إلى القضاء على ثقافة السيطرة الأبوية المنتشرة في المجتمعات العربية، ولا يعني الأبوة بمعناها البيولوجي، بل يعني سيطرة “النموذج الأبوي” الفكرية والثقافية التي تحكم المجتمع وتصرفاته؛ وبالقضاء على هذه السيطرة، يمكن نشر الفكر النقدي بأبعاده الحوارية والتبادلية، لينتهي عصر “الهيمنة” ويبدأ التفكير الحر والتفاعل الفكري والنقاش المستمر في المجتمع، الأمر الذي يجعل من الممكن النظر النقدي في الركائز الفكرية التراثية والموروثة، وفق قوله.

4- بُنى فكرية بديلة: النقد الحضاري عملية هامة عند “شرابي”، تسلط الضوء على الواقع المعاصر وعلى التاريخ، وتكشف الحقيقة بشقيها الظاهر والمُخفى، كما أنه يهتم بعملية التغيير الاجتماعي ويبحث في المقولات الفكرية والقيم العلمية التي تحقق هذا التغيير، وتعتبر شرطاً أساسياً له، يُعتمد عليها لإيجاد تمهيد فكري اجتماعي يؤسس بنى فكرية بديلة للمجتمع، حسب قوله.

الخطاب العربي

يسعى “شرابي” إلى فهم الخطاب العربي في القرن الفائت، وتحليله وتوضيح سماته التي أدت إلى فشل بعض نماذجه، والتي يرى أنها “عاجزة عن تكوين معرفة ذاتية” حسب قوله، وهي:

– النموذج التقليدي: ويتمثل في محاولة بعض المثقفين العرب تأكيد الموروث والقيم التراثية والحفاظ عليها، مع وجود نظرة جامدة عن الآخر المختلف.

– النموذج البطركي: وهو نموذج تقليدي يرى “شرابي” أنه يهدف إلى التوفيق بين التراث والحضارة، ويسعى للجمع بين الماضي والحاضر، وبين الاحتفاظ بالأصالة مع التقرب إلى الحضارة الغربية؛ ورغم محاولات أصحاب هذا النموذج في التجديد، فإنهم ينطلقون من مبدأ الحفاظ على حقيقة تراثية لا تقبل التشكيك والنقد.

– النموذج النقدي: هو تجسيد للوعي النقدي العلماني الحديث، المنفتح على الحضارة الغربية، ويستخدم مفاهيمها لفهم الحالة العربية؛ لكن “شرابي” يعيب على أصحاب هذا النموذج أنهم عاجزون وليست لديهم مقدرة على التنظير النقدي المستقبلي.

الخطاب النقدي

فشل نماذج الخطابات السابقة التقليدية منها والحديثة، أدى إلى ظهور خطاب نقدي جديد، تجاوز النماذج الثلاثة السابقة في اللغة والمضمون والموضوع، ويعمل على إعادة النظر الجذرية في المجتمع العربي وتركيباته الفكرية والتاريخية والاقتصادية، حتى يمكن إعادة النظر في بناء المجتمع بشكل كامل.

يدعو “شرابي” إلى هذا الخطاب ويصفه بالسمات التالية:

أ – خيار الحرية: فهو خيار وحيد لا وجود للكيان العربي الحداثي دونه، ينطلق من رفض الواقع ويسعى لتغييره لتحقيق أهداف مثل الحياة والحرية، حسب قوله.

ب- قدرة تشخيصية: من سمات الخطاب النقدي القدرة على تشخيص الحاضر، عن طريق “القبض على ناصيته”، وينتقل من تشخيص الحاضر إلى بناء رؤية مستقبلية، وفق “شرابي”.

ج- خطاب العلمانية: كما أنه خطاب “علماني” يسعى إلى التخلص من عيوب الفكر التراثي وأهمها الأصولية الدينية والفكرية والنموذج الأبوي الثقافي، ويسعى لتفنيد العقلية العربية التي سكنت فيها هذه العيوب، حسب قوله.

د- صراع حضاري: الصراع سمة أساسية من سمات الخطاب النقدي الحضاري، والصراع الذي يقصده “شرابي” صراع مزدوج، فهو من جانب يصارع الذات التراثية والأطر الفكرية التابعة لها، ومن جانب آخر يصارع الآخر، المتمثل في الحضارة الغربية، التي يدخل معها صراعاً حضارياً حتى لا يقع في حبائل التبعية والهيمنة لها.

هـ- آليات إبداعية: يعني بها “شرابي” أن الخطاب الحضاري يجب أن يكون إبداعياً من حيث اشتقاقه آليات ومناهج جديدة خاصة به، تعتمد على لغة جديدة تنتجها العقلية العربية الناقدة، عبر معرفتها الذاتية بنفسها ومعرفتها النقدية بما يجب تغييره في المجتمع العربي، حسب قوله.

مفهوم التراث

مشروع النقد الحضاري عند “شرابي” يهدف إلى تصحيح مفهوم التراث، ولأجل تصحيح هذا المفهوم، يفرق زمنياً بين نوعين من التراث:

– التراث التقليدي، بمفهومه التاريخي العتيق الممتد في التاريخ مئات السنين إلى الوراء، الذي تحكم في الماضي في العالم العربي، وما زال يلقي بظلاله عليه.

– التراث المعاصر، الذي صنعته الأزمنة الجديدة فصنع الواقع المعاصر، وما زال يتحكم في المجتمعات العربية، حسب قوله.

ـ الديني والتراثي: ضمن جهده في تصحيح مفهوم التراث، فرق “شرابي” بين الحقيقة الدينية وبين التراث الديني، ويرفض ادعاء بعض الحركات الدينية امتلاك الحقيقة، سواء تراثياً أو في العصر الحديث؛ وهو بهذا يهدف إلى إلغاء الهيمنة الفكرية على التراث التقليدي والواقع الحالي، ليفتح الباب أمام فكر نقدي جديد يعتمد على التحليل العقلي والأدوات العلمية الحديثة، يكون سبباً في النهضة العربية، حسب قوله.

النقد الحضاري

حدد “شرابي” لعملية النقد الحضاري، الهادفة إلى إحداث نهضة في الفكر العربي، مجموعة مهام، عبر اتباعها وتنفيذها يستطيع أن ينتقل العالم العربي إلى مرحلة النهضة والاستقلال الحضاري، ومنها:

1- القضاء على التخلف: يرى “شرابي” أن هذا التخلف تسبب فيه “لا عقلانية التدبير والممارسة”، و”العجز عن التوصل إلى الأهداف”، و”سيطرة الخطاب الأبوي والبنية البطريركية” في المجتمعات العربية؛ ولا يمكن مواجهة التخلف الحضاري والخروج من السيطرة والهيمنة المجتمعية السائدة، إلا بتفكيكها عقلياً وممارسة النقد الحضاري عليها حتى تنتقل هذه المجتمعات من هذه السيطرة إلى الحداثة، حسب قوله.

2- الفهم الصحيح للغرب: النقد الحضاري لا يقتصر على النقد الذاتي والتراثي للعالم العربي، بل يمتد إلى نقد الحضارة الغربية، عبر فهمها فهماً واعياً صحيحاً، حتى يتضح الطريق الذي يجب اتباعه في ما يخص تحقيق النهضة العربية، التي يرى أنها لن تتحقق إلا عبر السير في طريق يتجاوز التقليد والتحديث إلى بناء فكري حضاري عربي.

3- المهمة الاجتماعية: وهي مهمة للنقد الحضاري المختصة بتخليص المجتمعات العربية من مفاهيم السيطرة لبناء وعي اجتماعي نقدي يساعد على “بناء المجتمع في أرقى صوره”، حسب قوله.

4- المهمة الأيديولوجية: تهدف هذه المهمة عند “شرابي”، إلى القضاء على سيطرة الفكر الأصولي، لا سيما في المجال الديني، وإلغاء فكرة احتكار النص المقدس، وحصر التعامل معه على فئة معينة دون غيرها، أو على منهج تفكير ثابت دون غيره؛ ثم إتاحة الفرصة في التعامل العقلي وفق المعطيات الحديثة لمحاولة فهم النص الديني فهماً حديثاً، يلغي فكرة الفهم والتأويل المطلق للنصوص الدينية؛ إذ إن هذا الفهم عملية بشرية وليست مطلقة، ووفق هذا المنطلق فإنه من الممكن أن تتحقق الحداثة الدينية، حسب قوله.

 وختاماً، يهدف “شرابي” في مشروعه النقدي الحضاري إلى تفكيك النمطية السلطوية التي تقف حائلاً بين العالم العربي والحداثة، مثل انتشار ثقافة السلطة الأبوية في المجتمعات العربية، وانتشار السلطة التربوية المعتمدة على التلقي والتلقين، وتعيد إنتاج ما هو سائد في مجالات الحياة العربية، والسلطة البطريركية التي تفرض نمطاً فكرياً واحداً دون غيره على المجتمع العربي، وانتشار السلطة غير العقلية التي وصفها بـ”العقلية السحرية” في المجتمع العربي التي ظهرت بسبب تنحية التفكير العلمي.

وبتفكيك الأنماط السلطوية في العالم العربي، يرى “شرابي” أنه يمكن بناء مجتمع عربي حداثي جديد مستقل في ذاته، واعٍ بقدراته، منافس في حضارته، يُعلي من شأن العقل والعلم الحديث، ويجعل له السيطرة الفكرية على المجتمعات العربية في جميع نواحيها الدينية والأيديولوجية والعلمية والثقافية، حتى تتجاوز ما سبقتها إليه الحضارة الغربية.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

قراءات عامة

أصول جديدة: لماذا ينبغي إعادة التفكير في فقه المرأة؟

01-09-2024

ارسل بواسطة