نايلة أبي نادر:

التراث الديني قابل للدرس وإعادة القراءة بأدوات جديدة (1-2)

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

قضايا مهمة وحساسة تحاول الدكتورة نايلة أبي نادر، الباحثة والمتخصصة في الفكر العربي الإسلامي، الغوض فيها عبر طرح مختلف، يخص التراث الإسلامي وكيفية التعامل معه؛ إذ ترى أنه يمكن قراءة هذا التراث بأدوات جديدة ومغايرة، تتطرق إلى مسألة تأسيس الجهل في مجتمعاتنا العربية، وتقول إن سببه إقصاء المناهج النقدية والفلسفات التنويرية، مشيرة إلى وجود تراجع مخيف للاعتدال وخفوت واضح لصوت العقل.

وإلى نص الحوار:

– كيف يجب التعاطي مع التراث العربي الديني بالشكل الأمثل؟

سؤالٌ، للإجابة عنه، قدّم عدد من الباحثين في التراث مشاريعهم الفكرية التي هي خلاصة درسهم وقناعاتهم وجهدهم على مدى سنين طويلة.. قد يكون من الأنسب هنا التمييز بين التراث العربي بشكل عام، والتراث الإسلامي بشكل خاص.

فالتراث العربي عموماً يتضمَّن نتاجاً فكرياً في ميادين شتّى، في الأدب والشعر والبلاغة والفلسفة والتاريخ والعلوم، وغيرها مما أُنتج بالعربية عبر التاريخ.

التراث الإسلامي يتضمَّن ما أُنتج من علوم إسلامية بحتة، خلال الحقبة التي تلت الدعوة المحمدية، وهي تدور في فلكها.

من هنا دار النقاش في ثمانينيات القرن الماضي بين من يبغي إعادة قراءة العقل العربي ونقده، ومن يبغي إعادة قراءة العقل الإسلامي ونقده، باعتبار وجود فرق بينهما؛ إذ إن كلاً منهما يشكِّل حقلاً معرفياً له آلية اشتغاله، وأدواته الخاصة به. بعبارة أخرى، جاء محمد أركون بمشروع إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي من خلال منهجية “نقد العقل الإسلامي”، كما جاء محمد عابد الجابري حاملاً معه مشروع نقد العقل العربي الذي بلوره على عدّة مراحل في أربعة أجزاء، الأمر الذي فتح النقاش حول الفرق بين المشروعين، وعن ضرورة وجدوى كل منهما.

وسبق أن تطرّقت إلى هذا الأمر في كتابي “التراث والمنهج بين أركون والجابري”، وأبرزت أهميّة المنهج النقدي في قراءة التراث، أي تراث، وبخاصة التراث الديني. ولقد تولَّدت منهجيات نتيجة مجهودات فكرية جمَّة، يمكن استثمارها في مقاربة موضوع الدرس، أكان دينياً أم لا.

من هنا، لم يعد مستساغاً البقاء خارج العمل النقدي، وتجاهل مفاعيل منهجيات علوم الإنسان والمجتمع واللغة.. إنها أدوات يمكن استثمارها في أي مقاربة للتراث في بُعده الديني البحت، أو في بُعده الفكري العام.

ما أنتجه الأقدمون قابل للدرس وإعادة القراءة بأدوات جديدة، من أجل تعرُّف المخزون المتوارث من جيل إلى جيل بنظرة جديدة فعلاً.. فالتراث العربي يختزن الكثير، المهم كيفية التعاطي معه، وهو ما نقصده بـ”المنهج النقدي”.

– كيف يمكننا تفعيل آليات النقد كالغرب في ما يتعلق بتراثنا؟

النقد عملٌ فكريٌّ لا يحمل هوية خاصة، ولا يرتبط بمنطقة جغرافية معيَّنة، ولا ينحصر في فئة إثنية دون سواها، ولا علاقة له بتراث محدد يرتبط به لا بغيره. إنه موقفٌ فكريٌّ يتّبعه العقل القلق في عمليّة البحث عن المعنى؛ إذ لا يريد الاكتفاء بما سبق أن جرى تقديمه من إجابات.. إنه عملية إخضاع مستمر لأي معطى فكري للتساؤل والمراجعة والبحث في الجذور، أما بخصوص الغرب، فالنقد ليس منهجاً حكراً على الغرب، لكن هذا الغرب، بعد عصر الأنوار، استثمر في النقد واعتمد عليه في مراجعة موروثاته الدينية والعلمية والفلسفية والفكرية بشكل عام.. وبالتالي لسنا مضطرين إلى تطبيق الخطوات المنهجية النقدية الغربية بحذافيرها. فالنقد فعلٌ خاضعٌ بحدّ ذاته للنقد والتطوير والتأقلم بشكل مستمر، إنه ليس قالباً جاهزاً يُسقط كيف ما كان.. فلكل فيلسوف وجهة نظره، وخبرته النقدية، ونظرته المبنيّة على مكوّنات فكرية لديه، يمكن الاستفادة منها، كما من غيرها.. النقد لا يعني الجمود ولا التقوقع ولا السجن داخل أي إطار معرفيّ محدّد باعتباره هو الأكمل والأقرب إلى الحقيقة دون سواه. إنه عملية فكرية متجدّدة تعيد النظر في المقدّمات وفي النتائج، وفي كل مرّة يتّضح لها شيء، إما جديد وإما مستور انكشف، وذلك بمجرّد تغيير زاوية النظر فيه.

– كيف نحارب “تأسيس الجهل”؟

شدّد محمد أركون في سياقات عدّة على ما يسمّيه “الجهل المؤسّس”، وهو يعني به العمل عن قصد على تنشئة أجيالٍ من الطلبة والأساتذة، في مجال الدراسات الدينية أو في المجال التعليمي ككل، انطلاقاً من أيديولوجيات ضيِّقة، والاكتفاء بتكرار ما سبق أن أنتجته المدارس الكبرى والتيارات الفكرية المعروفة، بعيداً عن الفكر النقدي.. هذا النهج -الجهل المؤسِّس- في التعاطي مع الجيل الجديد أدّى إلى الوقوع في ثغرات معرفية، وانقطاعٍ عن ممارسة النقد، والاكتفاء بما جرى تحصيله، باعتباره الشهادة الأعلى من المرجعية الأهم.. إجمالاً، مَن يحمل شهادة معيّنة، بخاصة إنْ كانت درجتها عالية، وعلامتها مميّزة، يظن نفسه أنه أصبح عالماً، وهو ليس في حاجة إلى آخرين لكي يسمع رأياً آخر في ما يقدّمه هو، ولا أن ينفتح على إمكانية وجود مقاربات أخرى مختلفة حول الموضوع نفسه، فتتلاشى عنده الأسئلة النقدية، ويطمئن إلى ما توصّل إليه، لا بل يفرضه على الآخرين بقوّة سلطان شهادته، وهنا مكمن الخلل، فمعظم أصحاب المدارس والجامعات يفرضون مناهج تعليمية يظنّون أنها الأكمل والأجدى، ويخرّجون طلاباً متشابهين إلى حدِّ تكرار نموذج الأستاذ الذي بدوره يجسّد نموذج سلفه، الأمر الذي يولّد حالة اجترار تعوق عملية التجديد والتغيير والانتفاضة على الرتابة.

كذلك تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن عملية “شيطنة” الآخر، وما ينتجه من مناهج معرفية، تؤدّي إلى استبعاد ما يمكن أن يحصل في حال قراءة فكره والتفاعل معه.. إن عملية إقصاء المناهج النقدية، والفلسفات التنويرية، والمقاربات التفكيكية عن أي منهاج تعليمي، من شأنه أن يؤدّي إلى شرعنة الجهل، ومكافأة صاحبه بشهادة تسمح له بارتكاب المجازر الفكرية في حقّ المعرفة والجيل الجديد، على حدٍّ سواء.

– قلتِ: “ما أحوجنا اليوم في العالم العربي إلى الفلسفة العربية لتجديد المناهج التربوية…”.. فكيف نجدد مناهجنا ونبتعد عن التطرّف؟

هذا الأمر يشكّل دائماً قلقاً لديّ.. فإنْ ألقينا نظرة على ما حولنا نلحظ بوضوح كم أن الفكر المتطرّف، من هذه الناحية، أو تلك، هو الذي يكتسح الساحات، والشاشات، والمنابر. نلاحظ تراجعاً مخيفاً للاعتدال، وخفوتاً واضحاً لصوت العقل الهادئ والرصين.

نجد أن أيّ خطابٍ متطرّفٍ اليوم يمكنه استقطاب العدد الأكبر من المتابعين، وإحداث الضجيج الأعلى قدراً من حوله. في حين أن الخطاب العقلاني الباحث عن الحقيقة، الذي يُعيد النظر في مسلّماته، ويتقبّل الخطأ، ويمارس النقد الذاتي، هذا الخطاب انكفأ أصحابه، أو لم يعودوا يشكّلون نقطة ارتكازٍ فعليّ اليوم. هذا الوضع ينذر بالخطر، وعلى كل المسؤولين في المجال التربوي، على مختلف تسمياتهم، أن ينكبّوا على دراسة الواقع، والعمل على إيجاد منافذ تربوية سريعة، تأخذ بالاعتبار الكمّ الهائل من خطاب التطرّف والكراهية، والعمل على مستويين، المدى القريب والمدى البعيد. وكأن المجتمعات المعاصرة تسير نحو تدمير نفسها تدميراً ذاتياً؛ إذ لم تعد الحاجة إلى أي عامل غريب من الخارج لكي يفتك بها. فمَن ينشأ على رجم الآخر، وتكفيره، وإلغائه من الوجود، لمجرّد أنه آخر مختلف، يقارب الأمور من زاوية مغايرة، وهو سوف يخوض بسهولة أي معركة في وجه جاره أو قريبه أو مواطنه للقضاء عليه، ظناً منه أنه يسعى إلى إرساء الحق والعدالة والنظام الصحيح.

من هنا تأتي العودة إلى أهمية إدخال الفكر الفلسفي العربي في المنهاج التعليمي، وتسليط الضوء على كبارٍ أتوا واجتهدوا وقدّموا طروحاتٍ عقلانية لحلّ مسائل عالقة في الذهن. لم يتردّدوا في مواجهة إشكاليات عصرهم، ومواكبة المستوى الفكري الذي كان سائداً في اليونان، فتفاعلوا معه بعمق محاولين استثماره في مواجهة ما كان يعترضهم من إشكاليّات. الفكر الفلسفي العربي بُني على عقلانية معيّنة، يمكن استثمارها اليوم للبرهنة على أن التفلسف ليس غريباً عنا، والمنطق ليس علماً لصيقاً بغيرنا فقط، والنقد ليس القيامُ به أو تقبّله فعلاً مستحيلاً، داخل البيئة العربية.. ليس المطلوب بالتأكيد إعادة حفظ وتكرار ما جاء به الفلاسفة بالعربية من قبل؛ إنما مجرّد درس فكرهم ونقده، يجعل الطالب على بيّنة من جذور العقلانية في تراثه، الأمر الذي يحفّزه على استكمال المسار والذهاب إلى ما هو أبعد.. المطلوب أن يسعى المشتغلون في المجال التربوي إلى تقديم الفلسفة العربية بلغة سهلة قريبة من الجيل الجديد، وتحفيز الطلبة على صحبة الفلاسفة، وتعرُّف المشكلات التي شغلتهم، والصعوبات التي عاشوها.. المطلوب أيضاً إبراز أهمية هؤلاء الفلاسفة في الفكر الغربي، وكيف جرى التعاطي معهم في أوروبا وخارجها، وكيف جاءت نتائج التفاعل مع ترجمات الكتب الفلسفية إلى اللغات الأجنبية. مؤسفٌ جداً عندما نرى كيف انهمَّ الباحثون في الغرب وانكبُّوا على دراسة التراث الفلسفي العربي، في الوقت الذي كان أهل هذا الفكر يهمّشونه، أو يضطهدون أصحابه، أو يشوّهون مضمونه. والمقارنة في هذه الحال مفيدة جداً بين مفكّري ضفتَي المتوسط في الحقبة عينها، بين انشغالاتهم وكيفية تعاطيهم مع مشكلات عصرهم.

كذلك، من الضروري عدم الاكتفاء بتسليط الضوء على فلاسفة القرون الوسطى وإغفال مفكّري عصر النهضة وما تلاه، وصولاً إلى الحقبة المعاصرة.. فمن المفيد جداً درس نماذج من المفكرين المعاصرين؛ كيف يتصدَّون للإشكاليات الفكرية والمعرفية والاجتماعية، وما النهج الذي يعملون من خلاله على بلورة نظرياتهم.. ليس صحياً ولا مطابقاً الواقع ما يُروَّج من أنه لا فلاسفة عرباً معاصرون، وليس للعرب فلسفة معاصرة، أو لا مقاربات فلسفية تقرأ الواقع المأزوم بأدوات منهجية حديثة.. توجد مسؤولية تربوية تتلخّص في عدم أدْلجة الحكم على الفكر الفلسفي، وعدم تهميشه، والعمل على إبراز نقاط قوته وضعفه بأسلوب محبّب يمكن فهمه والتفاعل معه.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

لقاءات خاصة

عامر الحافي: بعض المذاهب الإسلامية لم تشتهر رغم أنها أصوب من الرائج (الجزء الأول)

01-09-2024

ارسل بواسطة