نايلة أبي نادر:

ما يجري حولنا من تطرف تدمير شامل باسم الدين (2-2)

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

يستكمل مركز “حوار الثقافات” حواره مع الدكتورة نايلة أبي نادر، الباحثة والمتخصصة في الفكر العربي الإسلامي، وفي الجزء الثاني من الحوار تناقش قضايا مهمة، على رأسها علاقة الدين بالفلسفة كما تراها هي، وتفند الفرق بين كل منهما؛ إذ تقول إن الفلسفة والدين تحدّيان كبيران “يضعاني في مواجهة نفسي”، وتتحدث كذلك عن التطرف وكتب التراث الإسلامي، وتشير إلى أن التطرف ليس حكراً على الدين الإسلامي، وأيضاً تحدد رؤيتها لدور الفلاسفة في الزمن الحاضر، وتؤكد أن الفلاسفة مدافعون عن القيم الإنسانية، متسائلة: لمَ لا يخوضون معركة مشتركة في مواجهة التطرّف والتباغض والتنابذ؟

وإلى نص الحوار:

– كيف ترين علاقة الفلسفة بالدين؟ هل يتكاملان؟ هل يتعارضان؟

إشكالية العلاقة بين الفلسفة والدين عمرها من عمر بداية تفتّح الوعي الفلسفي، وأدرّس هذه العلاقة في فصل كامل بالجامعة، ولا أوفيها حقّها نظراً إلى غنى المقاربات وتعدّدها. كُتب كثير وما زال، تضاربت الآراء بين من ينصب العداء بينهما -الفلسفة والدين- وبين من يسعى إلى التوفيق وترسيخ الانسجام بينهما.. يوجد من يريد الاستغناء عن الدين أو رميه في دائرة التهميش، ومن يعمل على تكفير الفلاسفة ورميهم بأبشع التُّهم.

وبعيداً عن هذا التوتر أرى أن الفلسفة موقفٌ فكريٌّ باحث عن الحقيقة، والدين تجلٍّ في التاريخ للحقيقة بشكل تعاليم واضحة يتّبعها من يؤمن بها.

والفلسفة نهجٌ حرٌّ يسعى إلى إيجاد جوابٍ عن الأسئلة المقلقة، والدين فعل انعتاقٍ من المحدودية وتوقٌ نحو المدى الأبعد.

الفلسفة حفرٌ وبحثٌ وتدقيقٌ وتأمّلٌ في النتائج، والدين تحليق وسمو وارتقاء.

الفلسفة حوارُ الأنا مع نفسها، ومع الآخر، والدين تعرّف الأنا من خلال الآخر.

في الفلسفة تنفتح أمامي آفاق المعرفة، وفي الدين تُشرع أمامي رحاب المعنى.

في الفلسفة أقلق وأشك وأسأل وأنتقد، وفي الدين أراجع أخطائي وأحاسب نفسي وأقف أمام مرآة الضمير.

الفلسفة والدين تحدّيان كبيران يضعاني في مواجهة الأنا المنغلقة على نفسها، المتشرنقة داخل مسلّماتها، المكتفية بانتفاخاتها العقيمة، تبجّل صورتها الداخلية وتعظّمها. الفلسفة والدين صوتان يصرخان في داخلي كل يوم: أين أنا من ألم الآخر، من معاناته، من انتكاساته؟ أين أنا مما يجري حولي من تدمير ممنهج للحياة والفكر في آنٍ؟

– هل ترين أن كتب التراث هي المسؤول الوحيد عن التطرّف أم هي عامل بين عوامل أخرى؟

مسألة التطرّف ليست حكراً على الدين الإسلامي، فهي ظاهرة باتت تكتسح العالم المعاصر. فالتطرّف في مختلف أشكاله، حتى ولو في تشجيع فريق رياضي دون سواه، ليس أمراً مستساغاً، وهو يسير نحو الهدم والتشويه والتعنيف.. فإنْ جاء التطرّف ليفعل فعله في نفوس المؤمنين، فإلى أي مدى تبقى هذه النفوس وفية وأمينة لدعوة دينها الحقيقية؟ لغطٌ كبيرٌ تسبّب فيه خلط الدين بالسياسة، واستخدام الدين واجهة لتحقيق مشاريع سياسية.. ومن الضروري التنبّه إلى هذا الأمر، والفصل بين الدين بوصفه مشروعاً خلاصياً يدعو إلى تحرير الإنسان من ضعفه ومحدوديته، وبين المشروع السياسي الذي تحمله هذه المرجعية أو تلك، أو هذه الطائفة أو تلك. عندما يطغى السياسي على الديني/الإيماني ستنهض الدعوات إلى التطرف ومواجهة الآخر الذي في الجهة المقابلة من أجل مواجهته قبل الانقضاض عليك وإنهاء أمرك.. هنا تبدأ سرديات تضخيم قدرات الخصم والتحفيز على معاداته من أجل مقاتلته؛ باعتبار ذلك واجباً لا مفرّ منه، فيختلط حينها الدين والسياسة من وجهة المصالح الضيّقة، وتأتي النتيجة سلبية على الدين والسياسة معاً.. فالتطرّف الديني مَقتلة بكل معنى الكلمة. والانفتاح والحوار جسران نحو الحياة الآمنة.. إن ما يجري حولنا فعل تدميرٍ شاملٍ باسم الدين من خلال أداة إشعال نار التطرّف. كل هذا العدد من الشباب المقتنع بضرورة خوض المعارك وإلغاء الآخر باسم التطرّف، ألا ينتبه إلى وجود مَن هو متطرّفٌ أقوى منه يترقّبه، ويدرس نقاط ضعفه، لكي ينقضّ عليه في الوقت المناسب؟ ما الذي يمكن أن ينتج عن التطرف سوى تطرف آخر أشرس منه؟

هل التراث الديني هو العامل الوحيد؟ بالتأكيد لا، لكنه العامل الأكثر أثراً وسطوة نظراً إلى إضفاء القداسة عليه.. وهناك عوامل أخرى منها:

  • الجهل الذي هو أمر يسهّل ويسرّع انتشار التطرف.
  • الفقر والعوز وسوء الحال.
  • انتشار المنصّات الإعلامية الإلكترونية التي تسمح لأي متطرّف بأن يعبّر عن فكره، ويعمّم دعوته، ويحفّز على اتّباع أقواله، وتنفيذ أوامره.
  • سهولة استخدام تطبيقات إعداد الفيديوهات ونشر الرسائل الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية.

كل هذه عوامل تُسهم فعلاً في إشعال نار التطرّف والتباغض. تحيط بنا اليوم وسائل تواصل بإمكانها نشر التضليل، وهي متاحة أمام الجميع تستخدم الدين لتمكين سلطتها. إنها تقنع المتابعين بأن تعاليم دينهم تتعرّض للخطر، والمبادئ والتقاليد الدينية التي يقدّسونها مهدَّدة. يتبع ذلك مباشرة دعوة إلى التكتُّل من أجل نصرة الدين انطلاقاً من أي وسيلة متوفّرة.

الخطاب المتطرّف اليوم هو سيّد المنابر، وإشعال الخوف وتحريك الغرائز، أمرٌ رائجٌ وسهل التحقّق، لذا، بات الحذر ضرورياً، والمبادرة إلى مقاومة كل هذا الكمّ الهائل من المخزون الإلكتروني المرعب بخطاب آخر له مقوّمات مختلفة تماماً.

نعيش في زمن يمكن فيه لأي شخص أن ينشر عن أيٍّ منا الأضاليل ويهدر دمنا ويجعلنا ملاحَقين لا لشيء إلا لأننا نزعجه فقط لا غير.. هذا الانفلات ليس التراث الديني هو المسؤول الأوّل عنه، والدين بريء منه.

– في ظلّ الظروف الراهنة مِن تخبُّط وتطرُّف.. ما دور الفلاسفة؟

تشهد المجتمعات المعاصرة في الحقبة الأخيرة تحدّيات كبرى، بخاصة بعد جائحة كورونا، وما تلاها من انهيارات.. كما أن الساحات المشتعلة في أكثر من مكان جعلت وقع الأزمات يتزايد والأسئلة المقلقة تتزاحم في مواجهة الوعي.. فما الذي يمكن أن تؤديه الفلسفة تجاه هول ما يجري؟ مَن سيسمع صوت العقل ويركن إلى التأمّل والتفكير مبتعداً عن النعرات الطائفية، والانحيازات المذهبية، والتعصّب الإثني؟

من يتابع وسائل التواصل الاجتماعي بشكل حثيث يلحظ أن النجوم المشهورين الذين يحقّقون نِسَب متابعة عالية جداً ليسوا أصحاب الخطاب الفكري العميق، ولا دعاة الحوار والانفتاح والتعقّل، ولا مروّجي قيم التسامح والعيش المشترك وتقبّل الآخر، إنما العكس تماماً.

الدعوة إلى نبذ الآخر وإدانته هي الأكثر انتشاراً.. الصوت الذي يخطب بقوةٍ باسم العنف ويهدّد بإراقة الدماء هو المسموع، ومتابعته تفوق المتوقّع. التركيز على إثارة النعرات وإيقاظ الخوف من الآخر مع تنامي الشعور بالاضطهاد يجعل المتلقّي يبحث عما يطمئنه لكي يلجأ إليه.. فهل يمكن للفلسفة أن تلعب هذا الدور؟ هل بمقدور المشتغلين بالفلسفة اليوم أن يكتسحوا المنصّات والشاشات كما يفعل غيرهم؟ بأي أسلوب سيجري التوجه إلى الشباب اليائس أو الخائف أو الرازح تحت نير المعاناة؟ وأي فلسفة يمكنها أن تشفي غليل التساؤلات الجمّة التي تنهال علينا كلّ يوم بسبب ما يحدث حولنا؟

هذه الأسئلة وغيرها، تجعل كلَّ إنسانٍ مهمومٍ بقضايا مجتمعه يبحث عن دورٍ ما ليؤديه؛ رافضاً أن يستسلم أو ينسحب إلى عزلته الفكرية، كما لو أن الأمور لا تعنيه. يوجد مَن لا يرغب في الانزواء على قمة بعيدة تحلو له، يتصوّرها في وعيه الخاص، فيستريح فيها تعويضاً عن عجزه عن مواجهة كل ما يحدث. نجده يكتب، يحاضر، يناقش، يفتح الخطوط مع من يحيطه ويدعوهم إلى الحوار والنقاش.

نلحظ في الفترة الأخيرة منصات عدّة تطرح الأمور، وتعلّق على الأحداث من زاوية عقلانية، لِمَ لا ندعمها ونشارك فيها؟ توجد ندوات مفتوحة من بُعد يمكن ترويجها وإتاحة الفرصة لأكبر عدد من أجل متابعتها.. المشتغل بالفلسفة، إن شاء، لديه مهام كثيرة، وليس من الضروري أن ينتظر دعوة أحد. المجال الافتراضي مفتوح أمامه، بالإمكان تبسيط خطابه بعض الشيء، لكي يصبح في متناول الشريحة الأكبر من المتلقّين، عليه أن يرمي شبكة أفكاره في بحر الإنترنت الرحب، فاتحاً المجال للحوار والتفاعل.

المشكل أن النهضة في أي واقعٍ كان لا يمكن أن يقوم بها أفراد فرادى، التشبيك ضروري، ومدّ الجسور غاية في الأهمية، وتبنّي المؤسّسات الرسمية، كما الخاصة، عملية النهوض أمرٌ يضمن نتائج أكثر فعاليّة. صحيحٌ أنه من الصعب أن يتّفق المفكّرون وينسجموا في مؤسّسة واحدة، لكن إن أرادوا إنجاح مشروعهم الفكري التوعوي بإمكانهم تخطّي فرديّتهم، لكي يضعوا حداً لأي تضخّم قد يصيب أناهم.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

لقاءات خاصة

عامر الحافي: بعض المذاهب الإسلامية لم تشتهر رغم أنها أصوب من الرائج (الجزء الأول)

01-09-2024

ارسل بواسطة