ميراث الزوجة:

تضمين "حق الكد والسعاية" في قوانين الأحوال الشخصية

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

على اختلافها، أقرت المذاهب الفقهية مقدار ميراث الزوجة من تركة الزوج المتوفى، بشكل ناجز ونهائي، وفقاً للتفسير الحرفي للآية الواردة في سورة النساء: ﴿وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّكُمۡ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدٞ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكۡتُمۚ مِّنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۗ﴾ [النساء: 12]. أي إنّه إذا كان للزوج ولد أو فرع وارث، كالابن وابن الابن وإن نزل، والبنت وبنت الابن وإن نزل، سواء كان هذا الوارث من تلك الزوجة أم من غيرها، فإنَّ نصيب الزوجة من الميراث يكون الثُّمن؛ وإن لم يكن له فرع وارث، يكون نصيب الزوجة ربع التركة.

وإذا كان للمتوفى أكثر من زوجة، فلا يزيد النصيب بزيادتهنَّ، بل إنَّ جميع زوجاته يشتركن بالرُّبع أو الثُّمن؛ بناءً على وجود الفرع الوارث من عدمه.

 الوصية والإرث

لقد تجاهل الفقهاء أنّ النص القرآني أقرّ أنّ الوصية سابقة على الإرث، وأنّه للزوج أن يوصي لزوجته ما شاء، وهو ما تجاوزه الفقهاء إلى القول: “لا وصية لوارث”، رغم وضوح الآية.

في دراسته: “مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن”، يرى نصر أبوزيد أنّه من الطبيعي أن تكون سورتا “النساء” و”المائدة” متضمنتين لتفاصيل الأحكام والشرائع، حيث تتضمن الأولى أحكام العلاقات الاجتماعية بين البشر، بينما تتضمن الثانية أحكام العلاقات التجارية والاقتصادية؛ مؤكداً أنه: “إذا كانت الأحكام التشريعية سواء على مستوى العلاقات الاجتماعية، أو على مستوى العلاقات الاقتصادية، مجرد وسائل لغايات ومقاصد أخرى هي حماية المجتمع والحفاظ على سلامته، فإنّ هذه المقاصد تتكفل بها سورتا الأنعام والأعراف”.

أي إنّ ترتيب السور داخل المصحف يقوم على البدء بالكليات، وصولاً لمقاصد الشريعة، وفقاً لنهج تدريجي، هو بالضرورة قابل للتطور على مر الزمن، تبعاً للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وكذا الأخلاقية. وهو ما يتجلى بوضوح في قوله سبحانه وتعالى، من سورة الأنعام: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 152].

وبدوره، يذهب الطاهر الحداد في كتابه: “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، إلى وجوب المساواة بين المرأة والرجل في الإرث؛ حيث أقام دعوته على أنّ “المرأة أصبحت مالكة للمال، وأنّها أصبحت تنفق على الأسرة، فزال بذلك مسوغ تفضيل الرجل عليها في الإرث، بسقوط قوامته”.

 مقاصد النص

على الرغم من أنّ الإسلام أجاز زواج المسلم من كتابية، والجواز هنا بحمولته التشريعية؛ بما يعني، بالضرورة، اعتبار الكتابية زوجة لها كامل الحقوق، فإنّ الفقهاء ذهبوا مرة أخرى تجاه مخالفة النص المؤسس، بالقول إنّه في حالة اختلاف الدين، أي إذا كان الزوج مسلماً والزوجة كتابية، فإنَّها لا ترث؛ وذلك بحسب رواية أسامة بن زيد: “لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ”، وإن كان للزوج زوجة مسلمة وأخرى كتابية، فإنّ المسلمة تأخذ نصيبها من الإرث كاملاً، ولا شيء للكتابية (!).

يُخالف هذا الرأي مقاصد النص القرآني، الذي كان أولى به وهو يحل زواج المسلم من كتابية، أن يذكر هذه القاعدة الشرعية الهامة، كما يزعم الفقهاء؛ هذا فضلاً عن أنّ ذلك يُخالف مفهوم العدل والإحسان، ويجعل الزوجة التي تعين زوجها حتى وفاته، والتي ربما تكون مُسنة حين يتوفاه الأجل، دون حول ولا قوة، وليس لها مصدر دخل يعينها على الأيام؛ وهو أمر لا يتفق مع قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [المائدة: 8].

وللخروج من هذا المأزق، الأخلاقي، أقرّ البعض بأنّ الوصية مشروعة للزوجة الكتابية؛ ففي كتابه “المغني”، قال ابن قدامة: “تصح وصية المسلم للذمي والذمي للمسلم والذمي للذمي، روي إجازة وصية المسلم للذمي عن شريح والشعبي والثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي”. أيضاً، قال محمد بن الحنفية وعطاء وقتادة إنّ المقصود بقوله تعالى: ﴿إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا﴾ [الأحزاب: 6]، هو وصية المسلم لليهودي والنصراني، واحتج هؤلاء بوصية صفية بنت حييَّ لأخ لها يهودي.

ولا يمكن ترك الأمر للأهواء، أو فتح الباب لاحتمالات السهو، ذلك أنّ حق الزوجة في مال زوجها، أمر تقره شريعة الإسلام، وما دام سكت النص عن حقوق الزوجة الكتابية، فذلك يعني أنّ الحق واقع لا جدال فيه، ومن بداهته لا يحتاج إلى نص.

حق الكَدّ والسِّعاية

يروي التراث الإسلامي حادثة ارتبطت بامرأة تُدعى حبيبة بنت زريق، عاشت في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. وكانت حبيبة تخيط الملابس وتطرزها، فيما كان زوجها عمرو بن الحارث يتاجر بما تصنعه، ما مكنه من تكوين ثروة من النسج والتجارة. لكن عندما توفي عمرو بن الحارث، استولى أهله على أمواله كلها، متجاهلين حق حبيبة فيها، الأمر الذي دفعها إلى رفع شكاية إلى الخليفة، الذي قضى بتقسيم المال إلى نصفين، نصف لحبيبة باعتباره حقها “الكد والسعاية”، والنصف الآخر يُقسَّم على الورثة، ومن ضمنهم حبيبة أيضاً وفقاً للشرع، لترث أيضاً ربع التركة، كونها لم ترزق بأطفال من زوجها.

وعلى الرغم من سعي البعض إلى تثبيت الحكم، فإنّه يعكس دلالات تأويلية هامة على عدة مستويات، يمكن من خلالها لممثل القانون تطوير حكم النص عبر استدعاء مقاصده، تبعاً لحالات متباينة، يؤدي فيها التطبيق الحرفي للنص إلى وقوع الظلم على الزوجة.

ويمكن القول بأنّ حق “الكد والسعاية”، يعترف بالحقوق المالية للزوجة في الثروة التي تكونت لدى الزوج، منذ أن اقترن بها، فمساهمة المرأة في تنمية ثروة الأسرة، يجعلها بحكم الواقع شريكاً مالياً للزوج، ونفس الأمر ينسحب على الأبناء (ذكوراً أو إناثاً).

وقد كان الفقيه المالكي أحمد بن عرضون، في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، أوّل من أفتى بحق الكد والسعاية، عندما سُئل عن نصيب الزوجة من المال والثروة التي شاركت في تكوينها مع الرجل، بعد موته أو قيامه بتطليقها، حيث أقرّ بأنّ للمرأة الحق في نصف ثروة زوجها ثم يكون النصف الآخر للميراث.

ويدخل في حق السعاية، عند المالكية، كل من قدر على الكسب من أفراد الأسرة، أو كما يقول محمد بن إبراهيم المزوار، فإنّ “السعاية هي حق أفراد الأسرة من المال بعملهم”.

وعلى الرغم من معارضة تيار كبير لهذا الحق الثابت في كتب التراث نفسها، فإنّ قطاعاً واسعاً من فقهاء النوازل أقرّوا به، وعلى رأس هؤلاء المهدي الوزاني، في كتابه: “المعيار الجديد الجامع المعرب من فتاوى المتأخرين من علماء المغرب”، حيث قام بالرد على منتقدي ابن عرضون؛ لافتاً إلى أنّهم “لم يفهموا مراده من القسمة، التي تنتصر لحق من يخدمون الثروة، فيأخذون منها بحسب جهدهم وعملهم، وأنّ انتصاره للحق ليس المقصود منه نقض الفرائض، أو التطاول على أحكام الإرث”.

وختاماً، ربما يؤدي تعميم هذا الحق، حق “الكَدّ والسِّعاية”، والذي يتجلى في عديد من المدونات الفقهية، وأهملته قوانين الأحوال الشخصية، إلى تحقيق نوع من العدل؛ فالنسوة المتعبات في الحقول والأسواق وشتى الوظائف، بما في ذلك الأعمال المنزلية الشاقة والتربية والرضاع، هن بالضرورة شركاء في ثروة الزوج، ولهن النصف، قبل توزيع التركة وإقرار الأسهم والأنصبة، وهو حق تأخر كثيراً، رغم إقراره في عهد عمر بن الخطاب، وتموضعه في مدونات فقه النوازل منذ القرن العاشر الهجري.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة