محمد الطالبي:

تجاوز الإرث الديني وبحث مقاصد القرآن

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

نزع القداسة عن التراث البشري للدين، من أهم معالم المشروع التجديدي للمفكر والمؤرخ التونسي محمد الطالبي (1921-2017م)، الذي كان أول عميد لكلية الآداب والعلوم الإنسانية، ثم ترأس قسم التاريخ، ليشغل منصب رئيس جامعة تونس.

تضمن مشروعه الديني احترام النص القرآني، واللجوء إليه مباشرة للتخلص من الإرث البشري المتراكم عبر التاريخ بسبب محاولات فهمه وتأويله، واستخدم منهجاً عقلياً يعتمد على التاريخ والعلوم الحديثة في قراءة النص التراثي؛ وقد عبر عن ذلك في عديد من مؤلفاته التي أصدرها باللغتين العربية والفرنسية، ومنها: “منهجية ابن خلدون التاريخية”، و”تجديد الفكر الديني”، و”عيال الله”، و”أمة الوسط.. الإسلام وتحديات المعاصرة”، و”ليطمئن قلبي”، و”دليل المسلم القرآني”، و”الإسلام حرية وحوار”.. وغيرها؛ إضافة للعديد من الأبحاث والمقالات والإشراف على عشرات الرسائل العلمية عبر عمله الأكاديمي في جامعة تونس.

التجاوز والقطيعة

1- الإرث ومواكبة التجديد: يحتل التجديد الديني مكاناً رئيسياً في المشروع الفكري لـ”الطالبي”، ويضع شرطين للتجديد أوردهما في كتابه “أمة الوسط.. الإسلام وتحديات المعاصرة”، فيقول: “نحن في حاجة إلى خطاب حضاري مقنع يقبض على طرفي الحبل: الوفاء للإرث، ومواكبة التجديد والتغيير اللذين يوجبهما وتفرضهما حركة الزمن”.

2- التجاوز دون قطيعة: رغم تقدير “الطالبي” للتراث الذي عبر عنه بـ”الوفاء للإرث”، فإنه يدعو إلى تغييره وتجاوزه، ولا يعني بتغيير التراث وتجاوزه القطيعة الكاملة التي يدعو إليها المفكر المغربي عبد الله العروي؛ بل إنه يدعو إلى التواصل مع التراث دون التقوقع داخله ودون إبداله ودون الإبقاء عليه، مع القدرة على تجديده وتغييره، فيقول عن التجديد: “ليس قطيعة، إنما هو تجاوز وتجديد”، حسب قوله.

3- نزع القداسة عن التراث: حاول “الطالبي” نزع القداسة عن التراث الديني، بوضع مستويين للتجديد الديني، هما:

– المستوى التاريخي: ويعني به الوعي بجدلية التاريخ وحركته المستمرة وفقاً لحركة الزمن، وفهمه الواضح لتخلف الفكر عن الحركية المستمرة، بسبب أزمة الاجتهاد وتراجعه عن مواكبة التطورات.

– المستوى المعرفي: في هذا المستوى التجديدي، يفرّق “الطالبي” بوضوح بين الدين والفكر الديني، أو بين الإسلام والفكر الإسلامي؛ إذ هما عنده دائرتان متغايرتان وغير متطابقتين، حيث يقول: “ليس لأي مسلم أن يدّعي أن قوله الحق ولا حق غيره وأن يتكلم باسم الإسلام”، حسب قوله.

ووفقاً للمستوى الإبستمولوجي “المعرفي” للتجديد الديني، فإن “الطالبي” ينزع القداسة عن التراث، ويجتهد في تأسيس حق للأجيال المتعاقبة في فهم النص الديني وتأويله وفق ما يناسب ظروفهم واحتياجاتهم، حسب قوله.

التجديد الديني

وضع “الطالبي” أربعة شروط للتجديد الديني، وطالب بالتزامها:

1- قداسة النص: ويعني بالنص القرآن وما صحَّ من أقوال الرسول، ولا يتضمن النص المقدس عنده ما سُمي “الحديث النبوي”، بسبب ما يراه من إشكاليات متعلقة بصحة الأحاديث ونسبها إلى الرسول، فيقول عنها: “الأحاديث لا علاقة لها بالإيمان، وكل مسلم له كامل الحق في إلغائها وتكذيبها إذا خالفت العقل”، حسب قوله.

2- نبذ العنف: ويقصد به “الطالبي” نبذ أشكال العنف في القراءة التأويلية للنص الديني، التي أصبحت منطلقاً لما وصفه بـ”الإسلام الحركي”، الذي يتخذ الإسلام أيديولوجيا سياسية على غير حقيقته، حسب قوله.

3- الالتزام الإيماني: ويفسره “الطالبي” بأنه الالتزام الإيماني بصدق الإسلام والقرآن الكريم وصلاحيته المطلقة وقدسيته، الأمر الذي وصفه بـ”الإيمان بالأصل الإلهي للخطاب”، ولا يمنع هذا الالتزام عنده من الاستفادة من العلوم الإنسانية الجديدة في فهم النص المقدس، وفقاً له.

4- الواقع الحضاري: وهو الشرط الرابع المتمثل في معرفة الحاجات الراهنة للمجتمعات الإسلامية الحالية، والوعي التاريخي بتخلف المسلمين وتراجع التراث الديني عن مجاراة الواقع الحضاري.

والهدف من معرفة الواقع عند “الطالبي”، يتمثل في “أن نوفر فضاءً ثقافياً يسمح بتطوير قراءة النص، قراءة مواكِبة بلا انقطاع لتطور المجتمع والحياة عموماً”، حسب قوله.

منهج المقاصد

اجتهد “الطالبي” في قراءة النص القرآني عبر استخدام ما سمّاه “منهج المقاصد” في قراءة القرآن، الذي يستخدم التحليل التاريخي لما قبل النص وفي زمن النص، إضافة إلى استخدامه التحليل الغائي للنص حتى يبحث في ما بعد النص، ثم البحث في النص ذاته حتى يصل إلى مقاصد النص.

يضرب “الطالبي” مثلاً لاستخدام منهج المقاصد في القرآن الكريم بموضوع الرق، فيوضح في قراءاته لما قبل النص، أن الرق كان نظاماً اجتماعياً موجوداً قبل نزول الوحي؛ وفي قراءته للنص، وجد أن النص القرآني يعمل على تحسين وضع الرق؛ وفي مقاصد النص، وجد أن النص القرآني عمل على إلغاء الرق، فوصل إلى نتيجة من قراءته القرآن قراءة مقاصدية، مفادها تحريم القرآن للرق.

تجاوز التراكمات

يدعو “الطالبي” إلى التعامل المباشر مع النص الديني، وتجاوز ما سمّاه “التراكمات الفقهية” والاجتهادات التي قدمها الفقهاء على مدار التاريخ، فيرى أنه قبل بداية علم الفقه مع الشافعي، حسب قوله، لم تتغير حياة المسلمين، فيقول موضحاً: “فالمسلمون قبل تقعيد الشريعة مع الشافعي كانوا يعيشون دونها”؛ لذا يدعو إلى العودة إلى القرآن الكريم وتأسيس فهم ديني جديد، دون الاعتماد على الإنتاج التراثي في التفسير والفقه، إذ هما “اجتهاد وفهم بشري”، و”لسنا مجبرين أن نؤمن بهما”، حسب قوله.

ويشرح وجهة نظره المتعلقة بالتراث التشريعي والفقهي، في حديثه عن “الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين”، التي أسسها في كتابه “تجديد الفكر الإسلامي”، قائلاً: “جمعية عقلانية لأن كتاب الله لا يخالف العقل… ملتزمة ما اتَّفق من سُنة الرسول مع القرآن”، حسب قوله.

الحرية الدينية

الحرية الدينية حق من حقوق الإنسان عند “الطالبي”، يؤسسها على الفردية؛ فالفرد حر في اختيار دينه وعقيدته، والإنسان حر في الاقتناع بدينه، ولا يحاسبه عليه إلا الله وحده، وهو بذلك يخالف وجهة النظر التراثية للحرية الدينية، التي تفهم الحرية على أنها “التزام العقيدة الدينية والتشريعات الفقهية دون الخروج عنهما”؛ فالحرية عنده تتضمن احترام المخالف دينياً، ويعطي الاحترام أهمية أعلى من التسامح؛ لأن الاحترام عنده من حقوق الإنسان، والاحترام متضمِّن معاني الحوار والتسامح، حسب قوله.

كما يُنادي “الطالبي” بالمساواة بين الرجل والمرأة، ويؤول الآية ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ …﴾ [النساء: 34]، بأن القوامة التي تقصدها الآية هي “تفاضل اختلاف في الخصائص”، لا “تفاضل تفويق وتحقير”؛ لذا فإنه ينادي بالمساواة بين الرجل والمرأة.

وانطلاقاً من الآية القرآنية ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً…﴾ [النساء: 3]، ذهب “الطالبي” إلى تحريم تعدد الزوجات؛ إذ استخدم المنهج المقاصدي والتحليل التاريخي والغائي للآية، فذهب إلى أن غاية الآية هو تحريم تعدد الزوجات، وأن إباحة التعدد المشروط كانت إباحة ظرفية مرتبطة بمكان وزمن معينين، حسب قوله.

كما يرى أن القرآن حرَّم ضرب الرجال للنساء، ويذهب إلى أن الفهم التقليدي للآية القرآنية ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ [النساء: 34]، الذي يروج أنه يُتيح ضرب المرأة، استُغل أسوأ استغلال من خصوم الإسلام، ويفسر ذهاب بعض العلماء والفقهاء إلى إباحة ضرب النساء، بعدم تغير الخطاب الديني الخاص بالمرأة وجموده، رغم تغير وضعية المرأة مجتمعياً وإنسانياً وعالمياً، ويستخدم لفهم الآية السابقة منهج المقاصد، فيرى أن القرآن ألغى إباحة ضرب المرأة، حسب قوله.

وختاماً، فقد تجاوز المشروع التجديدي للمفكر والمؤرخ التونسي محمد الطالبي، التفكير النظري إلى التطبيق العملي، فاستطاع أن يطبّق أفكاره ومناهجه التجديدية في القضايا الدينية، مثل قراءة النص القرآني، الذي استخدم فيه منهج المقاصد رابطاً بين التحليل التاريخي والهدف الغائي، حتى يصل إلى قراءة جديدة وحديثة للقرآن الكريم.

وإضافة إلى تراثه الفكري والأكاديمي المتمثل في مؤلفاته، فقد أسس “الطالبي” “الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين” التي جاءت أهدافها تطبيقاً لمشروعه الفكري، مثل: تجديد الفكر الإسلامي، والدعوة للحرية الدينية، والمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

قراءات عامة

أصول جديدة: لماذا ينبغي إعادة التفكير في فقه المرأة؟

01-09-2024

ارسل بواسطة