محاولة في تأكيد السلطة المدنية للدولة
القرآن الكريم وضع للإنسان الخطوط الرئيسية التي توجّهه في حياته، وترك له العمل بما يناسب المكان والزمان، بل أعطى له سلطة التشريع في ما يخص حياته ومعاملاته.. وهذا ما تبنَّاه المفكر المصري محمد أحمد خلف الله (1916-1991م)، في كتابه “القرآن والدولة”، الذي سار فيه على نهج الشيخ محمد عبده، والشيخ الأزهري علي عبد الرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، ويُعتبر امتداداً لمدرستهما العقلية بمؤلفاته الأخرى مثل “الفن القصصي في القرآن الكريم”، و”محمد والقوى المضادة”، و”القرآن ومشكلات العصر”.. وغيرها؛ كما تبنى موقفاً ثورياً “آنذاك” من تولي المرأة المناصب القيادية، بما فيها القضاء، دون حرج.
حرية الدولة
وضع القرآن حقيقتين في بناء الدولة، وفقاً لـ”خلف الله”؛ أولاهما أنه وضع الخطوط الرئيسية التي تجنّبه الخطأ وتوجّهه إلى الخير، والثانية أنه ترك التفصيلات الحياتية للإنسان يحياها كيف يشاء.
1- شروط الدولة في القرآن: يعرّف الكاتب “الدولة” لُغوياً، بـ”التداول بين الناس من يد إلى أخرى وتحقق السيادة وتمكن من السلطان”؛ ثم ينتقل إلى معناها القرآني، مستشهداً بآيات مثل: ﴿… وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]؛ والتداول الذي يتحدث عنه لا بد له من عوامل وشروط تُسمى بـ”السُّنن الإلهية”، أو “سُنة الله في خلقه”، وهي من “الحتميات”، فهي تكون في كل زمان ومكان، مستشهداً بالقرآن الكريم: ﴿سُنَّةَ مَن قَدۡ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن رُّسُلِنَاۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِيلاً﴾ [الإسراء: 77]، وفق قوله.
2- لا استثناء في السُّنن الكونية: لا يحابي الله في سُنّته الإلهية أحداً، حتى الأصفياء من خلقه؛ فالنبي “شُجَّ رأسُه وكُسرت سِنته ورُدي في الحفرة يوم أُحد، لتقصير من حوله من الرماة في ما يجب من نظام الحروب”، وفق قوله.
الدولة قبل الإسلام
1- المؤسسات السلطوية قبل الإسلام: يرصد الكتاب شكل الدولة، أو المؤسسات السلطوية، قبل الإسلام، وعمل القرآن الكريم على تغييرها، ويعرّفها بأنها كانت تدّعي أنها تستمد سُلطتها من الآلهة وتوجّه الحياة باسمها؛ ويقسمها المؤلف إلى مؤسسات الأديان السماوية، مثل اليهودية والمسيحية، ومؤسسات الأديان الوثنية، التي تعتمد على آلهة متعددة، حتى أصبح لكل قبيلة إله، وفق قوله.
2- القرآن ورفض السلطة الدينية: رفض “خلف الله” السلطة الدينية التي تفرض سيطرتها على الحياة؛ إذ يرى أن القرآن جاء لهدم هذه السلطة، التي تمثلت في مؤسسات ما قبل الإسلام، وأعلن رفضه الدور الذي كانت تمارسه هذه المؤسسات في “الوساطة” بين الله والناس، كما رفض ادعاءها امتلاك حق التشريع والغفران، وتأكيد هذه المؤسسات امتلاكها حق الشفاعة، الأمر الذي جاء القرآن ليهدمه بشكل كامل، حسب قوله.
الأمة الجديدة
1- هدم سلطوية رجال الدين: استهدف القرآن منذ نزول الوحي، حسب الكاتب، تأسيس أمة جديدة، بإخراج الناس من النظام الاجتماعي القديم، المبني على سُلطة رجال الدين والقبيلة، لتحل “الوحدة الفكرية والتماسك الاجتماعي محل الفرقة والانقسام”، وذلك عبر العقيدة التي دعا إليها، التي هي الإسلام، الذي هو “قديم قِدَم الحياة الدينية نفسها”، حسب قوله.
2- شمولية الإسلام للأديان السماوية: يُعرّف الكتاب الإسلام وفقاً للقرآن، فيقول إنه “الذي جاء على لسان جميع المرسلين وآمنوا به جميعاً وعدُّوا أنفسهم من أوائل المسلمين”؛ ويرى أن الإسلام له معنيان؛ “الأول منهما: الدين الذين جاء على لسان جميع المرسلين وآمنوا به جميعاً، والثاني: ذلك الذي نعرف اليوم باسم الإسلام الذي تدين به الجماعة التي نسميها (مسلمين)”، معلناً رفضه المعنى الثاني وإيمانه بالأول، وفق رؤية إبراهيمية حنيفية للإسلام، مستشهداً بآية: ﴿وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ﴾ [النساء: 125]، حسب قوله.
3- رفض “الدين ما عليه المتدينون”: يعلل المؤلف رفضه تخصيص لفظ الإسلام للمعروفين بالمسلمين، الذين يمارسون تقاليد وأعمالاً دون غيرهم، بأنه “اصطلاح حادث مبني على قاعدة الدين ما عليه المتدينون”، إذ تحوِّل هذه القاعدة الديانات إلى “جنسية”، بينما الإسلام معنى مغاير للإسلام العُرفي، وفق قوله.
المؤسسات البديلة
1- إلغاء سلطة المؤسسات الإلهية: يرى المؤلف أن القرآن ألغى المؤسسات التي تملك السلطة في العصر الجاهلي بشقَّيْها الديني والمدني، واستبدل بها أخرى أطلق عليها “المؤسسات البديلة”، التي لا تدّعي أنها تستمد السلطة من الله، وذهب إلى أن “الأنبياء لا يملكون من سلطات الله شيئاً سوى توصيل الرسالة وتبيانها”، فيقول: “لقد حدد القرآن الكريم سلطات الأنبياء والمرسلين بأنها البيان لا غير، فهم يبيّنون للناس ما نُزّل إليهم”.
2- المسلمون أحرار في إقرار مصالحهم: انطلاقاً من وجهة النظر التي استمدها الكاتب من القرآن، فإنه “أعلى” من مدنية السلطة، وعلى رأسها “السلطة السياسية والدستورية”؛ إذ إن القرآن أكمل التشريعات الدينية، وبيّن النبي ما يحتاج منها إلى بيان، أما: “المعاملات والقضايا المدنية والسياسية والعسكرية، فقد فوَّض الله أمرها لجماعة المسلمين”، وأعطاهم حرية ما يقررون فيها وفق ظروفهم ومصالحهم، والسلطة السياسية امتداد وتطبيق لما قرره المسلمون و”شرعوه” وفقاً لمصالحهم، حسب قوله.
سلطوية رجال الدين
1- صلاحية رجال الدين: رفض “خلف الله” السلطات الواسعة لرجال الدين، وتدخلهم في شؤون الحياة، فيقول: “رجال الدين يستطيعون أن يقوموا بوظيفة النبي في البيان والشرح للنصوص القرآنية، وبخاصة ما يتعلق بالعقائد والعبادات والمعاملات، لكنهم لا يستطيعون القيام بما لم يقم به النبي”؛ ويشرح ذلك بأن النبي لم تكن له سلطة التشريع دون الله، بل كان جهده مختزلاً في إيصال الرسالة الإلهية وتوضيحها، وفق قوله.
2- أصحاب السلطة المدنية: يسحب الكاتب السلطة المدنية من رجال الدين، ويوجّهها إلى الناس أنفسهم أصحاب المصالح، مستمداً رأي الشيخ محمد عبده الذي يقول “إن أولي الأمر في زماننا هذا هم: كبار العلماء، ورؤساء الجند، والقضاة، وكبار التجار والزراع، وأصحاب المصالح العامة ومديرو الجمعيات والشركات وزعماء الأحزاب، ونابغو الكتاب والأطباء والمحامون… أولئك الذين تثق بهم الأمة، وترجع إليهم في مشكلاتها”.
مرجعية الصالح العام
تبنَّى الكاتب فكرة تعطيل بعض الأحكام الواردة في آيات قرآنية، على سبيل الصالح العام، تأكيداً منه لمدنية الدولة التي نادى بها القرآن، ومستشهداً بتعطيل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، أحكام بعض الآيات القرآنية؛ مثل تعطيله أداء سهم الزكاة للمؤلَّفة قلوبهم، وتجميده، فالشرع قدَّم المصلحة في المعاملات على النص، حسب قوله.
أولاً، اختيار الخليفة: ذهب “خلف الله”، في كتابه، إلى أن “اختيار مَن يخلف النبي بعد وفاته جاء عبر حوار سياسي بين المهاجرين والأنصار، لذا فإنه يرى أن تولي أبي بكر الخلافة كان فعلاً سياسياً لا دينياً؛ ويعرض في كتابه لاختيار المسلمين مَن تولَّى الخلافة بعد أبي بكر؛ إذ اجتهد أبو بكر في اختيار عمر بعد أن شاور أهل الرأي والمكانة، أما عُمر، فقد جعل للمسلمين أمر اختيار مَن يخلفه بين ستة من الصحابة لا يختلف الناس في فضلهم، الأمر الذي يُثبت أن مسألة السلطة التنفيذية متروكة للمسلمين”، حسب قوله.
كما أنه يؤكد هذه الرؤية، فيقول: “لا يوجد نص في هذه المسألة، وهي من المسائل الاجتهادية، وهذا الاجتهاد فيها متروك أمره لجماعة المسلمين، يرون في كل عصر ما يحقق الصالح العام لهم”.
ثانياً، اختيار الرئيس: يتفق المؤلف مع الشيخ علي عبد الرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”؛ إذ يرى أن منصب الخليفة غير ديني، وتسميته بـ”الخليفة” تسمية زمنية فرضتها الظروف وقتها، نابعة من حاجة مدنية؛ فالمسلمون إذاً لهم الحرية في تسمية مَن يحكمهم بما شاؤوا ما دامت هذه التسمية لا تخالف القرآن، ومن حق المسلمين “أن يسمُّوا رئيس الدولة بالاسم الذي يتلاءم والمرحلة الحضارية”، حسب قوله.
ثالثاً، المرأة والمناصب: تناول الكاتب وقت صدور طبعة الكتاب الأولى، في عام 1973م، تولي المرأة المناصب القيادية، بما فيها القضاء؛ فذهب إلى أن للمرأة حقّ تولي القضاء، رافضاً الشروط التقليدية لاختيار القاضي كالذكورة وتحريم تولي المرأة القضاء، واستمد موقفه من أحقية المرأة في تولي منصب القضاء من القرآن، الذي يساوي المرأة بالرجل في التكليفات وفي العقل والحرية، حسب قوله.
وختاماً، فقد سعى “خلف الله” لما سمّاه تحرير العقل من مؤثرات تراثية تقليدية تراكمت عليه، فحالت بينه وبين الفهم الصحيح للقرآن في أمور غاية في الأهمية، فجاء كتابه “القرآن والدولة”، محاولة منه لتوضيح ما وصفه بأنه “الحقيقة الصافية للقرآن وموقفه الذي يرفض السلطة الدينية”.
واجتهد الكاتب في تأكيد مدنية الدولة وحرية المسلمين في اختيار شكل دولتهم وطرق إدارتها، وذلك عبر منهج اعتمد على القرآن، في محاولة منه لتوضيح حقيقة شمولية الإسلام للأديان السماوية، انطلاقاً من وجهة نظر إبراهيمية حنيفية.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.