إعادة تأويل القرآن والإبداع داخل التراث
معالجة إشكالية التراث وآثاره الممتدة، أهم ما يميز المشروع الحضاري للمفكر والفيلسوف الأردني فهمي جدعان، المولود في عين غزل، عام 1939م، ويرى أن تجديد التراث يجب أن يجري وفق منهج علمي تاريخي يستخدم العلوم الإنسانية، لإعطاء التراث قيمته الفعلية والإبقاء على جوهره الحي، وإسقاط الزائف منه.
“جدعان”، الحاصل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية من جامعة السوربون في باريس، ويعمل أستاذاً للفلسفة الإسلامية في الجامعات الأردنية والعربية، قدم للمكتبة العربية عديداً من الأعمال الفكرية، منها: “أُسس التقدم عند مفكري الإسلام”، و”نظرية التراث”، و”المقدس والحرية”، و”في الخلاص النهائي”، و”المحنة”، و”حضارة القرآن”، و”تحرير الإسلام”، و”خارج السرب”، و”الطريق إلى المستقبل”.. وغيرها؛ إضافة إلى مئات الدراسات والبحوث الفكرية، التي دعا من خلالها إلى منهج عقلي تكاملي يجمع بين العقل والمادة، وبين الوجود الروحي للعقل لتحرير الإسلام، وإصلاح الإنسان المسلم.
تجديد القراءة
1- النظر إلى التراث تاريخياً: يرى “جدعان” أنه يجب النظر إلى التراث بشكل تاريخي مرتبط بالنشاط الإنساني وفق ظروف ووقائع معينة مرتبطة بالحقبة التاريخية له، ويدعو إلى تجديد قراءة التراث وفقاً للتاريخ، داعياً إلى تجاوز نظرية المطلق في التراث والنظرة المثالية له، إلى اعتبار العقلانية الموضوعية.
2- رفض مقاطعة جوهر التراث: رفض مقاطعة جوهر النص والتراث، ودعا إلى استخدام النظرة العقلية الحديثة إلى مكوناته، سواء النصوص الدينية باعتبارها أحد روافد التراث، أو باقي روافده الأخرى؛ وقد تبنَّى “جدعان” موقفاً وسيطاً بين العقلانية الموضوعية، ومتطلبات العقل الوجداني، لإيجاد “رؤية إنسانية” تعطي لكل جانب من جوانب الإنسانية حقه، حسب قوله.
3- الانفتاح على الثقافة الأجنبية: التراث الإسلامي عند “جدعان” له جوانب إيجابية، مثل الانفتاح على الثقافة الأجنبية التي ظهرت لدى عديد من العلماء والفلاسفة المسلمين، مثل الكِندي، والفاربي، وابن رشد؛ إذ أدى انفتاحهم على الحضارة اليونانية ومعطياتها الفلسفية والعلمية إلى حالة من تقدم الثقافة أدت إلى ازدهار الحضارة الإسلامية في الفلسفة والعلوم.
4- النظر إلى مبادئ الإسلام الصافية: مبادئ الإسلام الصافية، المتمثلة في “العدالة المرتبطة بالمصلحة”، كانت سبباً في تقدم المجتمع الإسلامي في عصوره النقية، لكنه تراجع لغياب تلك النظرة، وظهرت جلياً في المناهج الفكرية المعاصرة عند الإسلاميين، وحتى أصحاب التفكير العلماني والتفكير الليبرالي؛ لأنها اتسمت بالأحادية والإقصائية في خطابها.
ولتحقيق الشمولية الكاملة لهذه المناهج الفكرية، لا بد لها من “رؤية شاملة تسير بها إلى مقترح ثقافي يؤدي إلى نتائج واقعية ملموسة لتجديد التراث وتحديث الواقع”، حسب قوله.
5- حل أزمة التراث عبر منهج علمي: لحل أزمة التراث الإسلامي، يدعو “جدعان” إلى إيجاد منهج علمي مشترك من العلوم الإنسانية والاجتماعية، تنطلق في بحثها من الواقع واحتياجاته، دون استيراد منهج غريب عن الواقع الإسلامي.
والتعامل مع الأزمة التراثية عند “جدعان” يجب أن يتجاوز قراءة ما أطلق عليه “إبداع التراث”، الذي يحدده عبر المنهج التاريخي الممتزج بالعلوم الإنسانية مع التراث، ويحدد ما سقط تاريخياً، للإبقاء على العناصر الحية في التراث التي يمكن أن تنتُج عنها ثقافة حية وتراث حي، حسب قوله.
6- إعادة تأويل نصوص الوحي: العودة إلى نصوص الوحي “القرآن”، وإعادة تفسيره وتأويله وفق المعطيات الواقعية الحالية، أمر ضروري عند “جدعان”؛ فنصوص الوحي أو “القرآن” هو المقدس في الإسلام، الذي يجب التعامل معه، وفي المقابل يجب نزع التقديس عن الإنتاجات الفقهية والمذهبية التي مارس المشتغلون فيها منهجاً شكلياً، فاعتمدوا على الحديث ومادته شرطاً لصحة الاستنتاج دون إعمال عقلي، رغم أن مادة الحديث قد تكون ظنّية، حسب قوله.
الإسلام السياسي
1- تيارات الإسلام السياسي والتخلُّف: اتخذ “جدعان” موقفاً حاسماً من تيارات الإسلام السياسي؛ إذ يصفها في كتابه “الخلاص النهائي.. مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين”، بأنها “بدعة أيديولوجية حديثة.. وانحراف عن غائية الإسلام الحقيقية”، ويتهم تلك التيارات بأنها “اعتنقت آراء فقهية متعلقة بالقضايا الاجتماعية والسياسية، تسببت في حالة الضعف والتخلف الذي يعاني منها العالم الإسلامي”، وفق قوله.
2- التمسك بالظاهر والحَرفي: من سمات تيارات الإسلام السياسي، حسب “جدعان”، التعلق الحَرفي بفهم النصوص الدينية، فهماً ظاهرياً للمتشابه في النصوص الدينية، ما أدى إلى اعتناق هذه التيارات أفكار الغلبة والسيطرة، وإقصاء الآخر ومهاجمته، وحوّلت الدين إلى هدف لطلب السلطة، بينما الدين لا يجب أن يكون محلاً لما تتسم به السياسة من نسبية وخداع ومراوغة ولا أخلاقية، حسب قوله.
3- الإسلام وصورة الإسلام السياسي: الإسلام عند “جدعان” له قيم ومقاصد، مجملها الرحمة والأخلاق والعدل والمساواة، الأمر الذي يتنافى مع الصورة السائدة عن الإسلام لدى تيارات الإسلام السياسي، التي تتبنَّى العنف بحجة “الجهاد”، وتستمد وجودها من الاقتتال الدائم والصراع الذي يدمر المجتمع؛ بينما الإسلام، بما له من قيم روحية وأخلاقية وأهداف سامية، ليس في حاجة إلى استغلاله عبر تلك التيارات للخوض في العنف والسياسة، فيما تدعي أنها هي والإسلام سواء، وفق قوله.
تحرير الإسلام
1-استعادة الصورة النقية: يربط “جدعان” في كتابه “تحرير الإسلام.. وسائل زمن التحولات”، بين “تحرير” الإسلام، وبين الدفاع عنه في صورته النقية المتمثلة في القرآن الكريم، وتحرير هذه الصورة من اختلالات الفهم، عبر النظر إلى القرآن وتفسيره وتأويله وفق منهج عقلي علمي، يتناسب مع الواقع الحالي وإشكالياته، ويعتمد على الاجتهاد العقلي الإنساني في مسائل مثل الوجود والمجتمع.
2- العقل وسيلة دفاع عن الإسلام: يلتزم “جدعان” في منظوره لتحرير الإسلام، المنهج العقلي التكاملي الذي يجمع بين العقلية المادية والوجود العقلي الروحي، ويرى أن أهمية هذا المنهج تتبدَّى في تحرير الإسلام داخلياً وخارجياً، داخلياً عبر حماية الإسلام من المسلمين أنفسهم، كما أنه هام لحماية الإسلام من أعدائه الخارجيين المتربصين به، حسب قوله.
3- تحرير وإصلاح الإنسان المسلم: تحرير الإنسان المسلم هدف هام عند “جدعان”؛ إذ يرى أن الإنسان المسلم في حاجة ماسة إلى إصلاحه في جوانب مختلفة، مثل: المبادئ الأخلاقية، والقيمة الإنسانية، والرحمة؛ داعياً إلى ما أطلق عليه “الإيمان التقي الرحيم”، الذي عبر اتباعه يمكن للإنسان أن يصبح قدوة، وذلك في مقابل “الإيمان المُستعلي” المرتبط بالإغراءات السياسية وامتلاك الحقيقة، ويسبب النفور والكراهية بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين غيرهم، ما يُكرس صورة ذهنية مغالطة عن الإسلام باعتباره ضد الحضارة وضد حقوق الإنسان وحريته، حسب قوله.
النسوية الإسلامية
1- قراءة نسوية للنص الديني: اهتمام جدعان بالمرأة تجاوز القضايا التقليدية لها، التي شغلت العالم الإسلامي مثل المساواة في الحقوق والواجبات، وتولي المناصب والحرية السياسية، وغيرها، إلى الاهتمام بحق المرأة في قراءة النص الديني وتأويله تأويلاً نسوياً خاصاً بها، وذلك في كتابه الذي حمل عنوان “فهمي جدعان خارج السرب.. بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية”.
والسيطرة الذكورية في التراث الإسلامي، عند “جدعان”، لم تكن في المجتمع الإسلامي الأول، الذي كان للمرأة فيه وضع مغاير لما أصبح عليه وضعها بعد ذلك، نتيجة ما وصفه بـ”القراءات الذكورية الفقهية” التي انتشرت عبر التاريخ الإسلامي بعد عهد النبي.
2- النسوية الإسلامية التأويلية: يدعو “جدعان” وينحاز إلى ما أطلق عليه “النسوية التأويلية” التي تهدف إلى إعادة قراءة النصوص الدينية المقدسة، قراءة نسوية، لإيجاد تأويل وإنتاج فكري ديني للمرأة المسلمة، قادر على مواجهة السيطرة الذكورية الممتدة تاريخياً، وفقاً لقوله، فـ”النسوية التأويلية” عند جدعان امتداد للنسوية الإسلامية.
في المقابل، يتحدث “جدعان” عن “النسوية الإسلامية” الرافضة، التي تستمد مشروعها الفكري من الغرب، ما يؤدي إلى ظهور جرأة على المقدس دون أي حدود، فيمارس رموزها حالة من “النقد الهادم”، أو ما وصفه بكونهن يقعن في منطقة “خارج السرب” حتى تقع في ظل الرافض للإسلام نفسه، بينما يشجع “النسوية الإسلامية”.
وختاماً، فإن تجاوز أزمة الحضارة الإسلامية، وضع لها “جدعان” مشروعاً حضارياً جمع بين الرؤية النظرية والتطبيق العملي، كما رفض الطرح الكلي للتراث، فدعا إلى الإبداع داخل التراث، عبر قراءة واعية معتمدة على منهج علمي، لإسقاط ما يجب إسقاطه والإبقاء على جوهره وروحه.
كما أنه شدد على ضرورة إعادة تأويل القرآن وتفسيره، بما يتناسب مع الواقع المعاصر، وطرح التفسيرات التقليدية التي عفا عليها الزمن، كما أنه دعا إلى وجود تأويل نسوي للقرآن للتغلب على النظرة الذكورية التي وضعها بعض الفقهاء عقب العهد الإسلامي الأول، فأعطى المرأة الحق في تأويل القرآن وتفسيره وفق منظورها وبما يتناسب مع احتياجاتها، إضافة إلى موقفه من الإسلام السياسي، الذي رأى فيه سبب التخلف الحضاري، وزج بالإسلام في ميادين لا علاقة له بها، وأدى إلى تصدير صورة غير صحيحة عنه.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.