فرقة المعتَزِلَة:

الأصول الخمسة وتأسيس العقيدة على العقل

مركز حوار الثقافات

09-09-2024

تعددت الفرق الكلامية في تاريخ الإسلام منذ القرون الأولى لظهوره، وتشعّبت أفكارها وفلسفاتها ضمن مناهج التفكير الإسلامي، التي بحثت في العقيدة الإسلامية واهتمت بإثبات صحتها بالأدلة العقلية والنقلية، وظهرت مسائل النظر والاستدلال التي اشتغلت بآليات الاستدلال العقلية على المسائل الإيمانية، في معرفة الله تعالى وكيفية الإيمان به، ومعرفة ما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز؛ وظهرت "المعتَزِلَة" بوصفها إحدى الفرق الكلامية الإسلامية، التي كان لها أثر كبير في الفكر الإسلامي لقرون عدة.

مدخل تاريخي

ترجعُ كَلِمةُ المعتَزِلَة إلى الاعتِزالِ، والاعتِزالُ لُغةً مأخوذٌ مِن: اعتزَل الشَّيءَ، وتعزَّله بمعنى: تنحَّى عنه، ومنه تعازَل القومُ بمعنى: تنحَّى بعضُهم عن بعضٍ، وكُنْتُ بمَعزِلٍ عن كذا وكذا، أي: كنْتُ في موضِعِ عُزلةٍ منه، واعتزَلْتُ القومَ: أي: فارَقْتُهم وتنحَّيتُ عنهم.

وحسب دراسة بعنوان "المعتزلة"، للدكتور مصطفى حلمي، تكاد تُجمع المصادر التاريخية وكتب الفرق على أن نشأة مذهب الاعتزال ترجع إلى اختلاف واصل بن عطاء مع شيخه الحسن البصرى (110هـ)، في الحكم على مرتكِب الكبيرة، واعتزاله مجلسه لهذا السبب. وفيما عدا هذه الرواية الشهيرة فإن أبا الحسين الملي -تُوفي سنة (377)- يعود بنشأة المعتزلة إلى أيام تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، لأنهم كانوا من أصحاب علي، فاعتزلوا الناس ولزموا البيت والمساجد قائلين: "نشتغل بالعلم والعبادة"، فسُمُّوا بذلك المعتزلة، والأرجح الرواية الأولى.

ومن أشهر الأقوال في هذا الإطار، ما يرويه الشهرستاني من أن واصل بن عطاء، تلميذ الحسن البصري، اعتزل مجلس الأخير حين اختلف معه في مسألة مرتكِب الكبيرة من المسلمين، وأنه ليس بمؤمن ولا كافر، بل هو في منزلة بين المنزلتين؛ إذ قال الحسن البصري تعليقاً على انفصال ابن عطاء عن حلقته: "اعتزل عنا واصل"؛ ومن هنا، وبحسب هذا القول، جاء اسم "المعتزلة".

ويعترض المستشرق السويدى هنريك صمويل نيبرج، على هذا التفسير التاريخي لاسم المعتزلة، لأن المؤرخ الشهير، المسعودي، يقول إن أصل كلمة "اعتزال" هو القول بالمنزلة بين المنزلتين، أي باعتزال صاحب الكبيرة عن المؤمنين والكافرين.

الأصول الخمسة 

تُمثّل الأصول الخمسة الخط العام لفكر المعتزلة. وقد اتفقوا عليها؛ فيذكر أبو الحسين الخياط -أحد أئمة المعتزلة- أنه لا يستحق اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولا يعني هذا انعدام الخلاف بينهم، فلقد كان هناك بعض الخلافات في الفروع التي بُنيت على هذه الأصول، لكن هذه الأصول الخمسة تمثل الأساس العام لفكر المعتزلة، التي لم تتكون دفعة واحدة، بل مرت بمراحل نشأة المعتزلة وتطورها.

الأصل الأول، التوحيد: يقول القاضي عبد الجبار، الفقيه المعتزلي، بأنَّ "اللهَ تعالى واحِدٌ لا يُشارِكُه غَيرُه في ما يستحِقُّ مِن الصِّفاتِ نَفياً وإثباتاً على الحدِّ الذي يستحِقُّه، والإقرارُ به، ولا بُدَّ مِن اعتِبارِ هذَينِ الشَّرطَينِ: العِلمِ والإقرارِ جميعاً، لأنَّه لو علِم ولم يُقِرّ أو أقَرَّ ولم يعلَمْ، لم يكنْ موحّداً".

ويعني بذلك إثبات وَحدانيةِ الله ونفي المثل عنه، وأن صفاته هي عين ذاته، فهو عالم بذاته، قادر بذاته، لا بصفات زائدة على الذات، وإمعاناً في تأكيد التنزيه المطلق، نفى أن تكون لله صفاتٌ قديمة حتى لا تشاركه في القِدَم، كما نفت المعتزلة عن الله الجسمية والجوهرية والعرضية، وما يلحق وصف الجسمية من أوصاف كالوجود في المكان والتحرك والذهاب والمجيء، وأيضاً الجوارح والأعضاء وغير ذلك من الأوصاف.

الأصل الثاني، العدل: ويعنون به قياس أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة، وبناءً على ذلك نفوا أموراً وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقاً لأفعال عباده، وقالوا: إن العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم، إنْ خيراً وإن شراً.

ويقول الشهرستاني، الفقيه والمؤرخ الأشعري: "اتفقوا -أي المعتزلة- على أن الله لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه عندهم خلاف، وسموا هذا النمط عدلاً".. وقالوا أيضاً: "العقل مستقل بالتحسين والتقبيح، فما حسنه العقل كان حسناً، وما قبحه كان قبيحاً، وأوجبوا الثواب على فعل ما استحسنه العقل، والعقاب على فعل ما استقبحه". 

والعدل مبدأ هام في فكر المعتزلة؛ لأنهم يربطون بين صفة العدل والأفعال الإنسانية، ويرون أن الإنسان حر في أفعاله، وهو مسؤول عن هذه الأفعال حتى يستقيم التكليف ويكون الثواب عدلاً والعقاب عدلاً؛ وذلك خلافاً للجبرية الذين يعتقدون بأن الأفعال من خلق الله والإنسان "مجبور عليها"، لكن المعتزلة ترى أن "عدل الله يقتضي أن يكون الإنسان هو صاحب أفعاله".

ويترتب على القول بالعدل الإلهي أن الله لا يفعل الشر؛ فأفعال الله كلها حسنة وخيّرة، والشر إما أن يوجد من الإنسان، أو لا يكون شراً، إنما لا نعرف أسبابه، أو لا نستطيع أن نجد له مبرراً، لكنه ليس شراً.

الأصل الثالث، الوعد والوعيد: والمقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل لهم شفاعة ولا يُخرج أحداً منهم من النار، على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعةٍ وتوبةٍ استحقّ الثواب والعوض، وإذا خرج على غير توبة عن كبيرةٍ ارتكبها استحق الخلود في النار، لكن عِقابه يكون أخفّ من عِقاب الكفّار، وسمّوا هذا النمط وعداً ووعيداً.

الأصل الرابع، المنزلة بين المنزلتين: وهذا الأصل يوضح حكم الفاسق في الدنيا عند المعتزلة، وهي المسألة التي اختلف فيها واصل بن عطاء مع الحسن البصري؛ إذ يعتقد المعتزلة أن الفاسق في الدنيا لا يُسمّى مؤمناً بوجه من الوجوه، ولا يسمى كافراً، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مُصِراً على فسقه كان من المخلدين في عذاب جهنم.

ويذهب واصل بن عطاء إلى أن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سُمّي المرء مؤمناً، وهو اسم مدح، والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح، فلا يُسمّى مؤمناً وليس هو بكافر مطلقاً أيضاً؛ لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه، لا وجه لإنكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالداً فيها؛ إذ ليس في الآخرة إلا فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير، لكنه يُخفَّف عنه العذاب وتكون درجته فوق درجة الكفار.

الأصل الخامس، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وقد أوجبوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك. فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرّد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك، وغَلَبة الظن بحصول النصر وإزالة المنكر.

مسائل عقدية

إضافة إلى هذه الأصول الخمسة، فإن هناك مسائل عقدية أخرى عند المعتزلة: 

أولاً، نفي رؤية الله: أجمعت المعتزلة على أن الله لا يُرى بالأبصار، لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن في إثبات الرؤية إثبات الجهة لله والجسم، إذ لا يقع البصر إلا على الألوان، وهو منزه عن الجهة والمكان والجسم، حسب عقيدتهم.

ثانياً، القرآن مخلوق: اختلف المعتزلة مع كل الفرق الإسلامية الأخرى بقولهم بأن القرآن مخلوق وليس كلام الله، في معرِض نفيهم قِدَم الصفات الإلهية حتى لا تشاركه سبحانه وتعالى في القِدَم. ومن تلك الصفات قِدَم كلام الله، فاعتبر المعتزلة أن القرآن يحوي نصوصاً متنوعة ومختلفة ومتعارضة أحياناً؛ ففيها من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والكلام التشريعي والكلام الإخباري والكلام الوضعي، كما يجمع بين المسائل الروحية والدنيوية في آنٍ، فإذا كان ليس جائزاً تنسيب التناقض في القول إلى الله، يصبح من الضرورة إذاً اللجوء إلى النظر العقلي لتفسير ما ورد في القرآن، مما ينزع عنه الأبدية أو عدم الاجتهاد في نصوصه؛ لأن كلام الله محدث ومخلوق في محل، كما هو حرف وصوتٌ كُتِب أمثاله في المصاحف.

وختاماً، فإن فكرة تغليب العقل على النقل في تفسير أمور الدين، عند المعتزلة، قد استمرت في إنتاج كثير من الأفكار حتى العصر الحالي، فاستخدم عديد من الباحثين في الفكر الإسلامي ذلك الجزء من منهج المعتزلة في إعادة التفكير في مناحي الدين الإسلامي، بما يتوافق مع سمات العصر الذي يعيشونه.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة