عفراء جلبي:

قراءة التراث عبر النسوية الإسلامية التأويلية

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

أمَّت الناس في الصلاة، وتولت الخطابة.. لم يكن موقفاً عفوياً لدى الباحثة سورية الأصل، المهاجرة إلى كندا عفراء جلبي، بل عبَّر عن نسق ديني يعتمد على العقل ونقد التراث، ما يمكن اعتباره مشروعاً خاصاً بالمرأة المسلمة في عصر الحداثة.

عفراء جلبي، الحاصلة على الدكتوراه في دور اللغة والتأويل، والناشطة في قضايا المرأة والتجديد الديني، وُلدت في أسرة سورية مشهورة بالتدين والتفكير العقلي، ما ساعدها في تبني أفكار الحرية والتجديد والنظر العقلي، فوالدها المفكر الإسلامي خالص جلبي، المهتم بقضايا التنوير الديني، ألّف عديداً من الكتب المهتمة بتجديد الخطاب الديني عبر تحرير العقل، ككتابيه الشهيرين “في النقد الذاتي.. ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية”، و”سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي”.. وغيرهما؛ وخالها المفكر الشهير جودت سعيد، أحد رواد التنوير الديني في سوريا.

إمامة الناس

إلقاء الخطبة وإمامة الناس في الصلاة، عند “جلبي”، أمر متعلق بأهليّة المرأة الفكرية والروحية في الإسلام، وهو “أمر يقرّه القرآن الكريم”، حسب قولها.

ألقت عفراء جلبي خطبة عيد الأضحى في مركز النور الثقافي بمدينة تورنتو الكندية، ثم أمّت المصلين رجالاً ونساءً في صلاة التراويح بالمركز نفسه. خطوة قوبلت بردود فعل متباينة، بين قبول وترحيب ورفض واستهجان، وتولت الإمامة والخطابة في عديد من المرات بعد ذلك، حسب قولها.

“جلبي” لم تكن أول امرأة تلقي الخطبة وتصلي بالناس، فقد سبقتها الأمريكية أمينة ودود قبل ذلك بنحو “9” أعوام، في عام 2005م؛ إذ خطبت في الناس لصلاة الجمعة وصلّت بهم، ورفعت الأذان امرأة أخرى اسمها سهيلة العطار، لكن “جلبي” هي أول امرأة عربية تصلي بالناس وتخطب فيهم.

إلقاء خطبة عيد الأضحى، وإمامة الصلاة، جاءتا في ذهنها قبيل صلاة العيد، فعرضت على إدارة مركز النور الثقافي بتورنتو، أن تخطب خطبة صلاة العيد، على أن يصلي رجل بالناس صلاة العيد، فرحبت إدارة المركز، وحينما صلَّت بالناس إماماً كان في غير صلاة الفريضة، تحديداً في صلاة التراويح، لكنها أمّت الناس بعد ذلك وخطبت فيهم مرات عديدة، حسب قولها.

خطبة العيد

تشرح “جلبي” تفاصيل الخطبة، أنها كانت في صلاة عيد الأضحى موجهة للجالية المسلمة، اشتملت على الحديث عن الحج وعيد الأضحى، وهي أمور تهم المسلمين بحكم المناسبة والمعرفة الدينية، وقد توفرت فيها كل الشروط، التي تمكنها من ممارسة هذا الدور، وفق قولها.

مكانة المرأة

ترى “جلبي” أن إمامتها الصلاة وتوليها الخطبة، تهدفان إلى “استعادة القيادة الروحية للمرأة التي أقرها القرآن الكريم، الذي لم يفرق بين رجل وامرأة”، حسب قولها، لافتة إلى أن تلك المكانة الروحية للمرأة في القرآن “اختُطفت بفعل بعض الفقهاء، وذلك تمييزاً منهم لجنس دون آخر”، وفق قولها.

وإمامة المرأة الصلاة عند “جلبي” أمر ليس جديداً في الإسلام؛ إذ تستشهد بواقعة حدثت في زمن النبي حينما عيّن صحابية تدعى أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث على أهل حيّها، وعيّن لها مؤذناً، وهي حافظة جامعة للقرآن، فكانت تصلي بمن عيّنهم عليها رسول الله، بمن فيهم المؤذن.

وتهدف “جلبي” بتوليها الخطابة والإمامة في الصلاة أن تستعيد مكانة المسجد في زمن النبي، حسب قولها؛ إذ كان المسجد في زمنه صلى الله عليه وسلم مكاناً لجميع أفراد العائلة، دون استثناء ودون تمييز بين صغير أو كبير أو جنس دون آخر.

وتذهب إلى أن الإسلام ليس ديناً كهنوتياً، وبالتالي فليست الشعائر والعبادات -فضلاً عن الإمامة والخطابة- حكراً على أحد؛ بل يجب السماح لأن تكون الخطبة مفتوحة للشخصيات العلمية والمعرفية الذين من الممكن أن يُثروا حياة الناس، وفق قولها.

وتضيف أن أهل مكة انتقدوا النبي وعابوا عليه اهتمامه بالمرأة والعبيد، وإفساحه المجال لهم في مجلسه، وذلك بسبب وضع المرأة الدُّوني عندهم، وهو الأمر الذي أبطله الإسلام، وأعطى المرأة حريتها كاملة وردَّ لها اعتبارها، وأكد قدرتها العقلية والفكرية، بل إن النبي استشار المرأة في قضايا هامة، واستشارته زوجاته مثال مشهور ومعروف.

ردود متباينة

واجهت إمامة “جلبي” ردود فعل متباينة؛ إذ عارضها عديد من رجال الدين، ووصفوا إمامتها المصلين وإلقاء الخطبة بـ”المخالفة الشرعية”، الأمر الذي رفضته، وأكدت أنها لم تمس أياً من القواعد الدينية الثابتة، وأن ما فعلته كان له أصل ديني في العهد الأول للإسلام، حسب قولها، وأنها وسعت قاعدة ممارسة الشعائر، واستشهدت على منتقديها بتعيين النبي صحابية تصلي بحيها، وبإباحة أحمد بن حنبل للمرأة أن تصلي بالناس في التراويح، إن كانت أعلمهم وأقرأهم للقرآن.

موقف شحرور

عديد من المفكرين الإسلاميين رحبوا بإقدام “جلبي” على الخطابة والإمامة، وعلى رأسهم المفكر السوري الراحل محمد شحرور، الذي أثنى على الخطوة، وقال: “قامت السيدة عفراء جلبي بإلقاء خطبة عيد اﻷضحى المبارك في مركز النور الثقافي بمدينة تورنتو الكندية، ولم تأتِ خطوة هذه السيدة من فراغ؛ إذ تربت في عائلة متدينة منفتحة على العالم. فأبوها طبيب له عدة كتب، وخالها أستاذنا الكبير الكاتب والداعية لنبذ العنف جودت سعيد”، حسب قوله.

حجاب المرأة

ترى “جلبي” أن الإسلام أسَّس مشروع عدالة اجتماعية أعلى فيه من شأن المرأة، فأول من آمن بالنبي كان من النساء، وهي زوجته خديجة، وأول من استشهد في الإسلام كانت سمية بنت خياط، والنبي ساوى المرأة بالرجل، وكان يأخذ معه النساء في المعارك، ولهن قصص وبطولات كبيرة؛ لكن العدالة الاجتماعية في الإسلام حدث فيها تراجع تدريجي، حتى تراجع دور المرأة في المجتمع الإسلامي إلى ما نحن عليه الآن، من تهميش وتقزيم للمرأة ودورها، وفق قولها.

تنطلق “جلبي” في رؤيتها للحجاب من منظور قرآني؛ إذ ترى أن القرآن يتعامل مع حجاب المرأة وفقاً لآية: ﴿… وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 26]، فالقرآن يتعامل مع المرأة من منظور إنساني، فهو ضد النظرة الذكورية التي ترى في المرأة أداة نستخدمها، أو في المقابل تُخبَّأ وتحتجب عن الأعين، حسب قولها، وتضيف “إن القرآن يعيد إلى المرأة وقارها وهيبتها؛ إذ لم يفرض زياً معيناً بشكل محدد وواضح ليكون زياً للمرأة، بل طالب بضرورة مراعاة قواعد الاحتشام في الزي بالنسبة للمرأة المسلمة، وجعل أساس زي المرأة هو “التقوى”، التي هي أساس الحجاب وكل السلوك والتعامل مع الآخرين”، حسب قولها.

تعدد الزوجات

ترى “جلبي” أن القرآن أتاح تعدد الزوجات، ورغم تلك الإتاحة فإنه قيَّدها وحدَّدها؛ بل ومنعها إذا لم يتوافر الشرط الذي اشترطه، وهو العدل: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ …﴾ [النساء: 129]، فهي ترى أنه “رغم أن القرآن أتاح التعدد المشروط، فإن توجهه الغالب هو الزواج من واحدة”، حسب قولها.

وختاماً، فإن عفراء جلبي تمثل بنسقها الفكري حول التجديد الديني وموقفه من المرأة المسلمة، نموذجاً ريادياً لما وصفه المفكر الأردني فهمي جدعان بـ”النسوية الإسلامية التأويلية”، التي تهدف إلى إعادة قراءة التراث قراءة عقلية، لإيجاد إنتاج فكري ديني قادر على مواجهة الهيمنة الذكورية في التراث، التي انتشرت بعد العهد الإسلامي الأول.

وتُعد عفراء جلبي امتداداً للمدرسة العقلية، التي نشأت فيها وتأثرت بها، وتناولت قضايا المرأة من منظور نسوي عقلي، ينطلق من المساواة الفكرية والعقلية والاجتماعية التي أقرها الإسلام للمرأة، وتناولت عديداً من القضايا التي كان من المفترض أنها مسكوت عنها وغير مطروحة في التراث الديني.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

قراءات عامة

أصول جديدة: لماذا ينبغي إعادة التفكير في فقه المرأة؟

01-09-2024

ارسل بواسطة