عبد الله العلايلي:

التجديد الفقهي وحوار الديانات التوحيدية

مركز حوار الثقافات

15-09-2024

استمرارية الاجتهاد الفقهي وتأويل النص الديني، هما أهم ملامح المشروع التجديدي للمفكر اللبناني الشيخ عبد الله العلايلي (1914-1996م)، الذي تخرج في الأزهر ودرس على يد ثلة من علمائه، وشغل عضوية مجمع اللغة العربية بدمشق، وانشغل بفكرة التجديد الديني إلى جانب نشاطه في التجديد بمجالَي اللغة والأدب، وقدَّم مشروعاً تجديدياً رائداً في قراءة النص الديني والتراث الإسلامي والفقهي.

تتمثل ملامح المشروع التجديدي عند "العلايلي" في صيرورة الشريعة وإمكانية تغيُّرها وفقاً للتطورات الزمنية والمجتمعية، مع تقديم تفسير عصري حداثي للقرآن الكريم، لا سيما وأن التفاسير التراثية "بها أخطاء كثيرة وتتسم باللا عقلانية"، حسب قوله. هذه الملامح أوردها في عديد من مؤلفاته، وأهمها: سلسلة "إني أتهم"، و"أين الخطأ؟"، و"مقدمات لفهم التاريخ العربي"، و"مشاهد وقصص من أيام النبوة"، و"مثلُهن الأعلى السيدة خديجة"، و"مقدمة لدرس لغة العرب وكيف نضع المعجم الجديد".. وغيرها.

نحو فقه جديد

نادى "العلايلي" بنقد التراث الإسلامي بشكل كُلي، عبر إعمال العقل وإعادة النظر فيه، كما نادى بضرورة أن يشتمل النقد التراثي على نقد التفسيرات التراثية للقرآن الكريم، وإعادة النظر إلى الأحكام الفقهية، إضافة إلى باقي فروع التراث الإسلامي الأخرى وما يتعلق بها، ومنها اللغة العربية وعلومها، وذلك منهج عقلي يستخدم العقل والعلوم الحديثة في النقد التراثي، حسب قوله.

ويرى "العلايلي" أن التراث الإسلامي اشتمل على عادات وتقاليد "حكمت وتحكمت في المجتمع الإسلامي، تسبب فيها الموروث الجامد المبني على التقليد والاتباع، الذي يخالف روح الإسلام"، الذي هو "رسالة إصلاح لا تقليد، وعلم لا جهل وتعتيم"، حسب قوله.

كما يدعو عبد الله العلايلي إلى التخلص من هذه العادات التراثية التي وصفها بـ"الرجعية"، عبر ترك المنهج التراثي المتمثل في التلقين والتقليد، وفتح باب الاجتهاد والأخذ بالعلم الحديث، لا سيما وأنه لا يوجد خلاف بين الدين والعلم، وما يظهر أنه خلاف بينهما سببه "فهم خاطئ من بعض الفقهاء ورجال الدين للعلم"، حسب قوله، مضيفاً: "هذا الفهم لا علاقة للدين به، وأنتج تراثاً رجعياً متبلداً لا علاقة له بالعلم"، حسب قوله.

ودعا "العلايلي" إلى إعادة النظر في التراث بشكل عام، والنصوص الدينية بشكل خاص، والنظر فيها ومحاولة استنباط معانٍ وأحكام جديدة بها، يبُنى عليها فقه جديد لا يعتمد على الحفظ والتحصيل فقط دون فهم الواقع وآلياته وحاجاته، حسب قوله.

ومن صفات الشريعة الإسلامية عند "العلايلي" صيرورتها وقدرتها على التغير والتكيف، والقدرة على التوافق ومواكبة التطورات التاريخية والاجتماعية من عصر إلى عصر، مع مراعاة احتياجات المجتمع، ويساعد على ذلك القرآن الكريم بإمكانية إعادة تفسيره وقراءته قراءة حديثة، تتوافق مع التطور المستمر والظروف العصرية، وفق قوله.

العلمانية والإسلام

"العلمانية لا تتعارض مع الإسلام، والإسلام بطبعه دين علماني"، حسب العلايلي، ولم يقر نظام الحكم الديني "الثيوقراطي"، ورفض سلطة رجال الدين والطبقات الدينية، كما أنه لا "رهبانية أو كهنوت في الإسلام"، وهو ما يجعل الإسلام ديناً يتوافق مع العلمانية، التي يدعو "العلايلي" إلى تبنّيها في المجتمعات الإسلامية.

وينظر "العلايلي" إلى المجتمعات الإسلامية نظرة علمانية؛ فهو يراها تخضع لقانون التغير والتطور، ولا يمكن لأي مجتمع أن يحفظ أوضاعه السائدة على مر العصور، والمجتمعات عنده شبيهة بكائن عضوي يتغير وفق تغير الاحتياجات الإنسانية ومطالبها وظروفها التاريخية، ما ينفي ثبات تفسيرات النصوص الدينية والأحكام الفقهية، ويؤكد الحاجة إلى وجود قراءة جديدة للنصوص الدينية وفق تغيرات المجتمع، واستخلاص أحكام جديدة تلبي الحاجات الطارئة والمستحدثة للمجتمعات المتطورة، حسب قوله.

ضرورة الحوار

"العلايلي" من دعاة التقريب الإسلامي بين المذاهب الفقهية والعقائدية المختلفة، وهي وجهة نظر خالف فيها الرأي السائد تراثياً وحتى في عهده، وطالب بتوحيد الموقف الشرعي لكل المسلمين ضد التحديات المعاصرة، الناتجة عن التطور العلمي والاجتماعي وظهور المدنيات الجديدة، حسب قوله.

كما نادى بالحوار العقلي بشقَّيه: الداخلي بين المسلمين أنفسهم، والخارجي بين أصحاب الديانات السماوية.. وشدد على أهمية فتح حوار بين الشباب ورجال الدين والفقهاء، والنظر في طبيعة العلاقة بينهما، بهدف إصلاح عيوب الخطاب الديني البعيد عن فئة الشباب؛ للوصول إلى خطاب ديني يستهدفهم ويحقق آمالهم، وفق قوله.

ومن منطلق "الإيمان بالله الواحد"، دعا العلايلي إلى الحوار مع أصحاب الديانات السماوية من غير المسلمين، حوار يهدف إلى التفاهم العقلي والتقريب بين أصحاب الديانات التوحيدية، على ضوء من قبول الآخر وتأكيد القواسم المشتركة والتسامح المتبادل، وفق قوله.

الدين والسياسة

ويرفض "العلايلي" ربط الدين بالسياسة، ويرى أن ذلك الربط "تغوُّلٌ على الدين ومبادئه السامية وقيمه الروحية وإفساد للعلاقة بين الخالق وبين الإنسان"؛ ويرى أن النظرة السائدة في التراث الإسلامي التي تلقي ظلالها على العصر الحالي، التي تربط بين الإسلام والسياسة وترى أن العلاقة بينهما جوهرية ولازمة لإقامة الدين، هي نظرة "بشرية سُلطوية خاطئة أخضعت الإسلام لأهداف بشرية"، حسب قوله.

ونادى بأهمية فصل الدين عن السياسة، مع ضرورة العودة إلى روحانية الإسلام وقيمه الجوهرية وتأثيرها في الحياة الشخصية والفردية للمسلم، مشدداً على أن السلطة الدينية في الإسلام هي سلطة روحية.

ولفت العلايلي إلى أن "القومية والوطنية أفكار لا تتعارض مع الإسلام"؛ فـ"الإسلام لا يرفض الانتماء القومي المرتبط بوحدة الدم، بل نادى بها وأكدها"، حسب قوله.

والجدير بالذكر، هنا، أن الشيخ العلايلي كان من دعاة القومية العربية القائمة على مبدأ قومي لا علاقة له بالدين.

قضايا تجديدية

امتاز "العلايلي" بنظرة استباقية رائدة إلى التعاملات المصرفية بأنواعها، وقال بإباحتها، وكان سَبَّاقاً في نظرته التجديدية في الوقت الذي كان الرأي الفقهي السائد في العالم العربي هو تحريم التعاملات المصرفية بأنواعها. وقد انطلق "العلايلي"، في موقفه من إباحة التعاملات المصرفية، من الواقع المعاصر واحتياجاته بما في ذلك معاملات مالية جديدة، واتهم بعض الفقهاء -ممن رفضوا المعاملات المصرفية وأفتَوا بتحريمها- بـ"التسرع في إبداء الرأي"، أو ما وصفه بأنه "الإدلاء برأي في أمر مستحدَث جديد دون معرفة تفاصيله"، حسب قوله.

كما تبنَّى "العلايلي" وجهة النظر التي تدافع عن المرأة في الإسلام وسمو مكانتها، الأمر الذي عبَّر عنه في كتابه "مثلهن"، الذي تبنَّى فيه الدفاع عن حرية المرأة ومساواتها بالرجل، وضرب مثلاً بالسيدة خديجة، زوجة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، واعتبرها "راعية النبوة ونموذج للمرأة المسلمة ذات المكانة العالية في الإسلام".

وقد ذهب المشروع التجديدي للعلايلي إلى "جواز" زواج غير المسلم من أصحاب الديانات السماوية من المرأة المسلمة، ورأى في تحريمه "فهماً غير سليم" للنص القرآني، وسبب التحريم جاء بإجماع فقهي من بعض رجال الدين، وصفه بأنه "إجماع متأخر لا ينهض حجةً إلا إذا استند إلى دليل قطعي"، وهو الأمر الذي لم يحدث لعدم اعتماد هذا الإجماع على نص ديني صريح، كما أنه ذهب إلى أن الزواج في الإسلام عقد "مدني"، حسب قوله.

وختاماً، التجديد الديني عند "العلايلي" رهين التطورات التاريخية والاجتماعية للعالم العربي، تحدده المتطلبات العصرية والاجتماعية، ويتوافق مع ما ذهب إليه من "صيرورة الشريعة وقدرتها على التكيف والتغير بما يلبي الاحتياجات العصرية"، ما يفسر دعوته إلى فتح باب التأويل والاجتهاد المستمر في تفسير النص الديني، واستخلاص الأحكام الفقهية المناسبة للواقع الحالي، عبر ترك الأحكام الفقهية السائدة ومناهجها التقليدية المتمثلة في التلقي والتلقين والتقليد، دون اجتهاد وتأويل لاستنباط أحكام فقهية عصرية.

وجاءت من معالم مشروعه الديني، العودة إلى جوهر الإسلام وقيمه الروحية، ونفي الخلاف بين الدين وبين العلم، ودعم فصل الدين عن السياسة، وتأكيده العلمانية والحوار الديني الداخلي والخارجي، كما خصَّ الشباب بأهمية فتح حوار ضروري ينظر في العلاقة بينهم وبين رجال الدين؛ لتجنب ابتعاد الأحكام الفقهية عن وقود الأمم وحاجاتهم، عبر خطاب ديني يناسبهم ويحقق آمالهم.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

قراءات عامة

أصول جديدة: لماذا ينبغي إعادة التفكير في فقه المرأة؟

01-09-2024

ارسل بواسطة