لماذا لا يطلع المُسلم على كتب الديانات الأُخرى؟
يعيش المسلمون في العصر الحديث وسط عالَمٍ متعدد الديانات والمِلَل السماوية والأرضية، التي يعتنقها مليارات البشر، كالمسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية، وديانات أخرى. وقد يعيش الإنسان المسلم طوال حياته دون أن يطّلع على متون الكتب المقدسة لتلك الديانات، ولو على سبيل الفضول الثقافي والمعرفة العامة، أو محاولة فهم التعددية الدينية التي تحيطه، بسبب بعض الآراء الفقهية من بعض فقهاء المسلمين، الذين يقولون بمنع الاطلاع على الكتب المقدسة لأي ديانة أخرى.
فما الآراء المتباينة في تلك المسألة؟ وفي هذه الحالة، هل يسمح الموروث الرافض بتعايش المسلمين مع الآخرين؟
أولاً، آراء ترفض الاطلاع على كتب ديانات أخرى:
ضمن أهم الآراء التي تُحرِّم اطلاع المسلم على كتب الديانات الأُخرى، ما يلي:
1- رأي ابن باز: يقول الشيخ ابن باز بعدم جواز قراءة التوراة والإنجيل والكتب المقدسة الأخرى، وأن يستغني المسلم بالقرآن الكريم؛ ويقول إن الإنجيل والتوراة “كتابان عظيمان ولكن حُرِّفا وبُدِّلا، وينبغي للمؤمن ألّا يقرأهما ولا يشتغل بهما، إلا مَن كان عنده علم وبصيرة بكتاب الله وسُنّة رسوله، ويملك العلم بما حدث من تغيير وتبديل وتحريف، ليطالع هذه الكتب بغرض الردّ عليها وبيان أباطيلها وضلالاتها، أما عامة المسلمين وعامة طلبة العلم فليس لهم حاجة في ذلك، وذلك استناداً إلى حديث النبي عليه الصلاة والسلام، حين أتاه عمر فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي. وفي رواية، أن النبي غضب حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، فقال له: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي”.
والمقصود، عند ابن باز، أن العلماء العارفين بالشريعة المحمدية قد يحتاجون إلى الاطلاع على التوراة أو الإنجيل أو الزبور، لقصد إسلامي، كالرد على أعداء الله ومجادلتهم، ولبيان فضل القرآن وما فيه من الحق والهدى؛ أما العامة وأشباه العامة، فليس لهم شيء في هذا، بل متى وُجد عندهم شيء من التوراة أو الإنجيل أو الزبور، فالواجب دفنها في محل طيب، أو إحراقها، حتى لا يضل بها أحد، حسب قوله.
2- رأي ابن عابدين: نقل ابن عابدين (المنتمي إلى المذهب الحنفي)، في حاشيته، عن عبد الغني النابلسي قوله: “نُهينا عن النظر في شيء من التوراة والإنجيل، سواء نقلها إلينا الكفار أو مَن أسلم منهم”، حسب قوله.
3- رأي البهوتي: ويقول البهوتي (المنتمي إلى الحنابلة)، في “كشاف القناع”، إن عدم جواز النظر في كتب أهل الكتاب نصاً، ولا النظر في كتب أهل البدع، ولا النظر في الكتب المشتملة على الحق والباطل، ولا روايتها، “لِما في ذلك من ضرر إفساد العقائد”، حسب قوله.
4- رأي العسقلاني: ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني (المنتمي إلى المذهب الشافعي)، في “فتح الباري”، إن “الْأَوْلَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ وَيَصِرْ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْإِيمَانِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ”، حسب قوله.
5- رأي الزركشي: وقد قال الزركشي (المنتمي إلى الشافعية)، إن “الاشتغال بنظرها وكتابتها لا يجوز، والحاصل أنه لا يجوز للمسلم القراءة في التوراة والإنجيل، ولا يرخَّص في ذلك إلا لأهل العلم المتضلعين من الكتاب والسنة، لغرض الرد على أهل الكتاب ودفع شبهاتهم”. ويقول بجواز “النظر في كتب أهل البدَع لمن كان متضلعاً من الكتاب والسنة مع شدة تثبت، وصلابة دين، وجودة، وفطنة، وقوة ذكاء، واقتدار على استخراج الأدلة، (للرد عليهم) وكشف أسرارهم، وهتك أستارهم، لئلا يغتر أهل الجهالة بتمويهاتهم الفاسدة، فتختل عقائدهم الجامدة، وقد فعلته أئمة من فقهاء المسلمين، وألزموا أهلها بما لم يفصحوا عنه جواباً، وكذلك نظروا في التوراة واستخرجوا منها ذكر نبينا في محلات”، حسب قوله.
6- رأي ابن مفلح: يقول ابن مفلح (المنتمي إلى الحنابلة)، في “الآداب الشرعية”، إن “الإمام أحمد قد سُئِل عن هذه المسألة في رواية إسحاق بن إبراهيم، فغضب، وقال: هذه مسألة مسلم؟ وغضب. ثم احتج بأن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى في يد عمر قطعة من التوراة غضب، وقال: “ألم آتِ بها بيضاء نقية؟”، لأنها كتب مبدلة مغيرة فلم تجز قراءتها والعمل عليها”، حسب قوله.
7- رأي ابن تيمية: ويقول ابن تيمية (المنتمي إلى المذهب الحنبلي)، إن “عمر قد انتفع بهذا حتى إنه لما فُتحت الإسكندرية وجد فيها كتباً كثيرة من كتب الروم، فكتبوا فيها إلى عمر، فأمر بها أن تُحرق، وقال: حسبنا كتاب الله”.
8- رأي القرطبي: يقول القرطبي (مالكي المذهب)، في “الجامع لأحكام القرآن”، إن “لقارئ القرآن بكلّ حرف عشر حسنات فأكثر، فالرغبة عنه إلى غيره ضلال وخُسران، وغبن ونقصان”، حسب قوله.
ثانياً، آراء تؤيد الاطلاع على كتب ديانات أخرى:
ضمن الآراء التي تُبيح اطلاع المسلم على كتب الديانات الأُخرى، ما يلي:
ـ رأي الصادق العثماني: يقول الشيخ الصادق العثماني، الباحث الإسلامي ومدير الشؤون الدينية والدعوية بمركز الدعوة الإسلامية لأمريكا اللاتينية، “إن الكتب السماوية كثيرة ومتعددة وعددها بالضبط غير معلوم، لكن القرآن الكريم قد ذكر منها 5 كتب، وهي: القرآن الكريم، الذي أُنزِل على محمّد عليه الصلاة والسلام، والتوراة التي أُنزِلت على موسى عليه السلام، والإنجيل الذي أُنزِل على عيسى عليه السلام، وزبور داوود عليه السلام، وصُحف إبراهيم عليه السلام، ويلزم على المسلم الإيمان بها إجمالاً، في حين أنّ ما ورد من الأحاديث بأنّ عدد الكُتب السماويّة يبلغ 104، فهذا في الحقيقة يحتاج إلى بحث دقيق؛ لأن الحديث الذي ورد فيه هذا العدد من الأنبياء لا يرقى إلى مستوى الصحة”، حسب قوله.
وأضاف: “أكد القرآن الكريم في أكثر من آية أن هذه الكتب السماوية، كالإنجيل والتوراة، فيها الهدى والنور والموعظة، يقول سبحانه وتعالى ﴿وَقَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَ فِيهِ هُدٗى وَنُورٞ وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٗ لِّلۡمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 46].. ويقول تعالى في حق التوراة ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ﴾ [المائدة: 44].. علماً بأن الصحف السماوية هي جزء من الكتب السماوية، ممّا يعني أنه لا يوجد فرق بينهما، فكلاهما نزلا من الله على أنبيائه ورسله وتضمّنا أحكاماً، ودليل ذلك؛ الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم، وجاء معهم لفظ الكتب في بعض المواضع، وجاء معهم لفظ الصُّحف في مواضع أخرى، وكلها تتعلّق بوحدانية الله، ودليل ذلك قوله تعالى ﴿أَمۡ لَمۡ يُنَبَّأۡ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ٭ وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ ٭ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ﴾ [النجم: 36-38]…”.
ولهذا، والكلام ما زال للشيخ، “فجميع الكتب أو الصحف السماوية التي أنزلها الله على أنبيائه، وعدم الإيمان بها كفر، والإيمان بها واجبٌ شرعي، فهي من أركان الإيمان الستة، وتلك سمة كبرى من سمات الدين الإسلامي في أنه يقيم جسور التواصل بطريقة متفردة ليحقق أسمى معاني التسامح الديني؛ لذا يزرع في عقول أتباعه ركيزة هامة من ركائز الفهم لهذا الدين، وهي أن الأديان السماوية كلها تستقي من معين واحد. يقول سبحانه: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ﴾ [الشورى: 13]. فمصدر الوحي إذاً واحد؛ ولهذا وجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين مع الإيمان بالكتب التي أُنزلت عليهم، فالمسلم الحقيقي يحمل الاحترام لجميع أنبياء الله وكتبه ورسله، وذلك بوحي من مبادئ الإسلام”، حسب قول الصادق العثماني.
وختاماً، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يُقدِّر قيمة الكتب المقدسة، كالتوراة والإنجيل؛ وقد جاء في سُنن أبي داوود أن رسول الله وُضعت له وسادة فجلس عليها ثم قال: “بالتوراة”، فأُوتي بها فنزع الوسادة من تحته فوضع عليها التوراة ثم قال: “آمنت بكِ وبمن أنزلك”.. ووضعها على الوسادة تعظيماً لها وتكريماً للنبي الذي أُنزلت عليه، وهو موسى عليه السلام، ولما تتضمنه من الحق كذلك.
وإن طال بعض هذه الكتب شيء من التأويل أو “التحريف”، لكن يبقى أن فيها شيئاً من كلام الله، لهذا من حق أي مسلم مؤمن أن يطلع عليها ويقرأها ويتعلّم من قيمها الرفيعة وحكمتها الإلهية؛ فشريعة الإسلام واضحة في ما يتعلق بالكتب السماوية المُنزَّلة على أنبياء الله ورسله، بحيث اعتبرت الإيمان بهم والإقرار بكتبهم من أركان الإيمان في الإسلام.
وعليه، فكل مسلم يؤمن بالكتب السماوية؛ إذ كيف يُؤمر بالإيمان بها وتُحرّم عليه قراءتها.. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، في سورة البقرة: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285].
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.