مُحددات تجديد الخطاب الديني الإسلامي
حين نناقش معضلة تجديد الخطاب الديني الإسلامي، يواجهنا سؤال رئيس: من يقوم بالتجديد؟
تتعدد الإجابات: هل هي مهمة أجهزة الدولة الرسمية، تشريعية وتنفيذية؟ أم الهيئات الدينية الرسمية بوصفها مرجعية أساسية في الشؤون الدينية؟ أم أهل الثقافة والفكر المستقلون باعتبارهم ضمير البلدان؟ أم شراكة وحوار مجتمعي بين كل هؤلاء؟
آليات تجديد الخطاب
في الثالث عشر من يونيو 2024، قضت المحكمة الإدارية العليا بتأييد قرار وزارة الأوقاف المصرية، برفض تصريح الخطابة لأحد المنتمين للتيارات الدينية المتشددة في أحد المساجد بمحافظة البحيرة.
وسجلت المحكمة تسع نقاط أساسية لآليات تجديد الخطاب الديني، منها: اعتماد التجديد على فكرة أن الإسلام يدعو إلى السلام في الأرض، وإعادة فهم النصوص على ضوء واقع الحياة، ومعالجة مفهوم الوطن في الفكر السياسي الإسلامي، واعتماد التجديد على وسطية المنهج والاعتدال دون إفراط، ووضع التكنولوجيا الحديثة في الاعتبار، ومواجهة الفكر بالفكر، وألا يكون التجديد محصوراً داخل الأمة الإسلامية فحسب، وأن الدين الإسلامي يرتبط بالمعاملة ويتصل بالحياة الدنيا كارتباطِه بالآخرة، وتأكيد أن تجديد الخطاب الديني ليس تجديداً للدين وإنما هو تجديد للفكر الذي يرتبط بمستجدات الحياة.
تحديات تجديد الخطاب
إذا كان تجديد الخطاب الديني هو مهمة الدولة الرسمية، فما احتمالات النجاح أمام رفض مجتمعي للتجديد من الشرائح الاجتماعية المختلفة؟ وإذا كان التجديد يتفق مع إرادة الهيئات الدينية الرسمية، فكيف يمكن تفعيل آليات تنفيذ التجديد دون بقية أجهزة الدولة الرسمية؟ وبالتالي، إذا اعتمدنا الشراكة والحوار المجتمعي، ستواجهنا ثلاث صعوبات أساسية في تطوير الخطاب الديني في العالم العربي:
أولاً: غياب التعريف الواضح لماهية التجديد: تنوع رؤى التجديد بين الجهات المختلفة داخل الدولة الواحدة، قد يعطّل كل المبادرات بينها، وذلك لغياب الرؤية المشتركة لتفعيل مشروع واحد لتجديد الخطاب الديني؛ مما يتطلب الاتفاق أولاً على تعريف واضح لماهية التجديد المرغوب فيه. وهذا يتطلّب، بالتبعية، وضوح مفهوم وماهية التجديد الذي تتبناه الدولة، ومراعاة خصوصية الهويات الوطنية للمجتمعات العربية، ووجود اتفاق مجتمعي على ضرورة التجديد وتوافر المصلحة المشتركة فيه؛ مع وجود الرغبة الحقيقية للدولة في تفعيل مشروع وطني لتجديد الخطاب الديني، ووضوح الأهداف والآليات المستخدمة للوصول إلى تلك الأهداف.
ثانياً: غياب تعريف واضح لمفهوم الخطاب الديني: هل المقصود بالخطاب الديني، ما كتبه المفسرون والشرّاح والفقهاء في مختلف المذاهب، مع استثناء النص القرآني والأحاديث النبوية الصحيحة؟ أي: هل هو الإنتاج الفكري والثقافي المكتوب والمنقول عن المفسرين والفقهاء؟ وفي أي مرحلة تاريخية؟ أم هو الخطاب الديني الذي تتبناه جماعات “الإسلام السياسي”، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، حتى التكفيرية منها؟ آخذين في الاعتبار انتشار الأفكار التكفيرية والإقصائية داخل مجتمعاتنا العربية في السنوات العشر الأخيرة.
أم المقصود بالخطاب الديني هو خليط بين ما وصلنا من المفسرين والفقهاء وعلماء الدين باختلاف أزمنتهم، وبين أفكار جماعات “الإسلام السياسي” في العالم العربي؟
ثالثاً: غياب الأهداف من تجديد الخطاب الديني: إن تحديد الأهداف التي نرغب في تحقيقها من وراء تجديد الخطاب الديني ليس أمراً ثانوياً، بل هو ضرورة مُلِحة وأساسية، من أجل تشكيل وتفعيل أي مشروع فكري، ديني أو ثقافي، بطريقة فعالة ورشيدة وسلسة.
فهل يكون الهدف من تجديد الخطاب الديني، هو التوفيق والملاءمة بين الإسلام وبين متطلبات العصر الحديث ومتغيراته ومشكلاته، التي تختلف جذرياً عن متطلبات ومتغيرات ومشكلات القرن الثالث الهجري مثلاً؟ آخذين في الاعتبار كل الأفكار الثقافية الحديثة المتعلقة بالحريات الشخصية، وحرية المرأة والتنوع الثقافي، واحترام التعددية العرقية والدينية والثقافة العلمية والعقلانية، ومحاربة الأسطورة والخرافة، ونتائج عصور التنوير الحديث التي مر بها العالم؟
أم يكون الهدف من تجديد الخطاب الديني، هو التصدي للجماعات الإرهابية والتكفيرية التي تدعي احتكارها مفهوم “الإسلام الصحيح والوحيد”؛ راغبين في تبرئة الإسلام من وصمة الإرهاب والقتل الجماعي والرؤية الضيقة للعالم؟ وهل هذه التبرئة تستهدف مُخاطبة العالم الغربي، أم التقدم والتطوير داخل مجتمعاتنا، أم الاثنين معاً؟
إذاً.. دون تحديد الأهداف لا يمكن تحديد الآليات المستخدمة للتنفيذ.
فمثلاً، لا يمكن تقرير البحث عن “تأويلات جديدة” للنص الديني بما يتوافق مع مجتمعاتنا العربية، دون أن يكون من أهدافنا التخلّي طوعاً عن التأويلات القديمة أو “التاريخية” لنفس النص؛ مع الإقرار بأن بعض التأويلات القديمة للفقهاء والمفسرين، لم تعد تناسب المتغيرات والمحدثات الجديدة في عصرنا الحالي.
محددات تجديد الخطاب
ثمة محددات منطقية لا بد من التعامل معها بحكمة ورغبة حقيقية في الإصلاح، ولا يمكن صرف النظر عنها:
أولاً: البعد المجتمعي في عملية التجديد: مشروع تجديد الخطاب الديني ليس مشروعاً دينياً فقط، بل هو مشروع مجتمعي؛ وبالتالي هو مشروع سياسي بالتأكيد، يتطلب إرادة سياسية من مختلف القوى الوطنية داخل البلد الواحد، بما فيها الدولة الرسمية بشقيها التشريعي والتنفيذي؛ إذ لا يمكن العمل على أي نوع من التغيير والتطوير في الخطاب الديني دون الإرادة السياسية للدولة الرسمية، كما لا يمكن العمل على الآليات المستخدمة للتنفيذ دون إرادة مجتمعية من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، تتفاعل وتستجيب لمراجعة الأفكار القديمة، وقبول الأفكار والتأويلات الجديدة.
ثانياً: اعتماد التسامح والتعايش السلمي: يجب التعامل بحساسية وتفهّم مع الأطياف الدينية المتعددة في العالم العربي، مع إعلاء لغة التسامح والتعدد المجتمعي والتعايش السلمي المشترك، والمصلحة الواحدة بين كل الأطياف، من سنَّة وشيعة ومسيحيين وكل الفرق والمذاهب المتعددة، على مستوى العالم العربي.
ثالثاً: التنسيق الفعَّال بين الدول العربية: التنسيق الفعّال بين الدول العربية على المستوى الرسمي للدول، من أجل التعاون الإيجابي في مشاريع فكرية وثقافية، تشارك في المسؤولية التاريخية لمهمة تجديد الخطاب الديني في العالم العربي.
رابعاً: إشراك المؤسسات الدينية الرسمية: ضرورة تثمين الدور الذي تؤديه المؤسسات الدينية الرسمية في الدول العربية، ومشاركاتها الفعالة في الحوار المجتمعي، لأجل تجديد الخطاب الديني وتحديد المفاهيم والمقولات في ما يخص تلك المعضلة.
خامساً: ضرورة توافر الدعم المالي: توفير الميزانية اللازمة داخل الدول لتمويل تنفيذ الآليات المستخدمة في تطوير الخطاب الديني، من حملات فكرية وثقافية، ومطبوعات وبرامج توعية ومواد إعلامية، مما يستتبع وجود إرادة سياسية حقيقية من الدولة الرسمية لتوفير تلك الميزانية.
سادساً: تحديد الجمهور المستهدف: اعتبار الشباب العربي والناشئة هم الجمهور الأساس لتوجيه الحملات والآليات الخاصة بتجديد الخطاب الديني.
وختاماً، المجتمع الإسلامي في عصور نهضته قديماً كان مجتمعاً إنسانياً بالأساس، ولم يكن “دولة إسلامية” بالمفهوم الذي تطرحه بعض الجماعات المتشددة؛ أي إنه تعامل مع حقائق الحياة بما يتناسب مع المتغيرات والمحدثات في زمانه. والآن، يحتاج العالم العربي -باختلاف دوله- إلى وقفة تاريخية للتجديد، باعتباره “ضرورة حضارية”، بما يتناسب مع المتغيرات والمحدثات المتسارعة في الفترة الراهنة، فلم تعد التأويلات القديمة في معظمها قابلة للتطبيق في عصرنا الحديث، بما يتطلّب تأويلات جديدة وخطاباً مجدداً، يواكب التحولات الكبرى في هذا العالم، بما يتوافق مع المصلحة المشتركة لوطننا العربي على مستوى كل الطبقات والشرائح الاجتماعية، والطوائف والأطياف الدينية والعرقية المختلفة. وهي ليست بالمهمة المستحيلة؛ إذ لا تنقصنا الموارد، ولا العقول المفكرة المثقفة، ولا الشيوخ الأجلاء أصحاب العلوم المؤهلون للاجتهاد والتجديد.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.