ثلاثية التجديد عبر الفلسفة والعقل والرحمة
العلوم الفلسفية بمنهجها العقلي وقدرتها على التحليل، هي طريق مباشر لتجديد التراث الديني عند المفكر المغربي سعيد ناشيد، الذي ولد في المغرب عام 1969م، واهتم في معظم مؤلفاته بقضية التجديد الديني، وإزاحة سيطرة التراث المستمرة على الواقع الحالي.
وقد عبَّر عن مشروعه التجديدي في عديد من كتاباته، منها: “اليسار الفرنسي والإسلام”، و”الاختيار العلماني وأسطورة النموذج”، و”قلق في العقيدة”، و”الحداثة والقرآن”، و”دليل التدين العقلي”، و”التداوي بالفلسفة”، و”دليل التدين العاقل”، و”الذرائع في خطاب الإسلام السياسي”.. إضافةً إلى عديد من الدراسات والمقالات المختلفة.
الإصلاح والتجديد
يرى “ناشيد” أن الإصلاح والتجديد، في الخطاب الديني، يتضمن عناصر محددة، مثل:
1- تجريد الخطاب الديني من الأسطورية: يرى “ناشيد” أن الإصلاح الديني لا يكون إلا عبر تحرير الخطاب الديني من مقولات مثل الطاعة والولاء، ومن تجريده من المفاهيم الأسطورية والخرافية التي لحقت بالدين، وذلك للوصول إلى روح الإسلام الحقيقية وجوهره، وهو “مبدأ توحيد الربوبية الخالص دون شوائب”، حسب قوله.
2- الأصولية ركزت على الشريعة دون العقيدة: ركز الخطاب الأصولي، حسب ناشيد، على أحكام الشريعة، دون التركيز على العقيدة التي تمثل المحور الرئيسي للإسلام، فقد أصبحت العقيدة من المسكوت عنه داخل هذا الخطاب، لأن “العقيدة تمثل الجانب التحرري لتوحيد الربوبية، بينما انهماك الخطاب الأصولي في الشريعة يهدف إلى زيادة قوة التسلط التي يتسم بها المنهج الأصولي”، حسب قوله.
3- تعطيل الطموح وقتل الإبداع: تجمُّد الخطاب الديني، برأي “ناشيد”، سببه تعطيل الطموح وقتل الإبداع وحرمانه من روح التطور؛ فأصبح الدين شعائر لا روح لها، وأحكاماً راسخة ثابتة تتكرر على مدار الزمن بشكل دائري، الأمر الذي أدى إلى “انغلاق عقائدي”، تسبب فيه الفقهاء المتأخرون أمام محاولات الفهم والبحث في مقولات مثل الذات الإلهية، والصفات والأسماء، وقراءات القرآن وغيرها، وفقاً له.
4- انقلاب التراث على التوحيد الربوبي: يذهب “ناشيد” إلى أن التعامل التراثي التقليدي دون اجتهاد أو تفكير في النصوص الدينية، تسبب في جمود عقائدي وعقلي أدى إلى انقلاب العقل الإسلامي على مبدأ التوحيد الربوبي، بينما النصوص القرآنية “حمَّالة أوجه”، وبها “متشابهات”، وبعض آياته تنسخ بعضاً، حسب قوله.
مخاصمة العقل
التراث التقليدي والعلوم الدينية المختلفة، مثل الفقه، عقب بداياتها، ارتكزت في تعاملاتها على النص دون الاجتهاد العقلي، ما تسبب في مخاصمة العقل، حسب قوله.
1- توسيع سلطة النص: يقول “ناشيد” إن الاجتهاد الديني يعاني أزمة لها جذور مترامية في التاريخ؛ إذ إن الفقه في بداياته حاول تقليل الفرق بين النص والواقع، عبر توسيع مجال سُلطة النص ليشمل كل ما يمكن أن يستجد، وكانت أداتهم في ذلك استخدام القياس، الذي لم يعد صالحاً بعد أن استجدت وظهرت إشكاليات جديدة، لا يتسع لها النص، فظهرت أزمة الاجتهاد الديني المعاصر المغاير للاجتهاد العقلي، حسب قوله.
2- السيطرة على العقل: ويرى “ناشيد” أن رجال الدين يسيطرون على العقل، ويستخدمون وسائل لا علاقة للعقل بها، مثل التلقين والنقل والرواية، دون اكتشافات مبدعة، ودون وجود مساحة عقلية تؤدي إلى فكر ديني حقيقي، ودون اعتقاد حقيقي في قضية الفكر؛ لأنه سيؤدي إلى الفلسفة التي ستؤدي إلى بناء مشروع ديني، وفق قوله.
الفلسفة والتجديد
يذهب “ناشيد” إلى أن الفلسفة، بما لها من منهج عقلي وقدرة على التحليل والوصول إلى بواطن الأمور، يمكن أن تكون عاملاً رئيسياً هاماً في تجديد التراث الديني.
1- إفراغ الخطاب الديني من الفلسفة والعقل: يقول “ناشيد” إن فقهاء وعلماء الدين أفرغوا الخطاب الديني من أي محاولات للتفكير والإعمال العقلي، فسادت مصطلحات مثل “الإجماع” و”متفق عليه”، و”معلوم من الدين بالضرورة”، ما أفرغ الدين من التفكير العقلي والمنهج الفلسفي، ولم يبق للخَلَف إلا ترديد واستظهار ما قاله السلف؛ وأصبح السؤال بدعة والتفكير ضلالة، وغاب الاجتهاد عن النص، ما جعل التجربة الدينية تتراجع فكرياً وعقلياً، حسب قوله.
2- الفلسفة مدخل للإصلاح الديني: الإصلاح الديني عند “ناشيد” رهين الفلسفة؛ لأن ذلك الإصلاح مرهون بأمور مثل الفكر والعقل وتغيير بعض المفاهيم، وهي أمور تحتاج إلى الفلسفة والمنهج الفلسفي العقلي، لأن الفلسفة مدخل لإصلاح الفكر والذات الإنسانية، ما يعود بالإيجاب على عملية الإصلاح الديني؛ من حيث إن التفكير الفلسفي، حسب رأيه، “قادر على أن يحوِّل الخطاب الديني من عائق أمام العقل والعلم، إلى عامل نهضة وحضارة”، وفق قوله.
3- خطوات إصلاحية متزامنة: يحتاج الإصلاح الديني، وفق “ناشيد”، إلى ثلاث خطوات إصلاحية متزامنة، يجب أن تخضع للفلسفة والعقل والإنسانية، حسب قوله، وهي:
– تحديث الخطاب الديني، بشكل عام، خصوصاً الموجَّه إلى الناس عامة، سواء عبر المنابر وخطب الجمعة، ووسائل الإعلام، وتأهيل الأئمة والخطباء، للتركيز على قيم مثل المساواة وحقوق الإنسان واحترام الآخر، وذلك لتخليص الخطاب الديني من خطاب الخوف والكراهية والانتقام والتعصب.
– تخليص مناهج التعليم، وعلى رأسها المواد الدينية، من التمييز العنصري والديني، المبني على الدين والجنس والعرق، وتأكيد القيم القرآنية في هذه المناهج، مثل المحبة والرحمة والعفو والصفح، لترسيخها في وجدان الناشئة.
– إعلاء سلطة القانون، الذي يعد عقداً اجتماعياً، اجتمع عليه الناس يضمن لهم العيش المشترك، وتفعيل الاجتهادات الدينية في الأحكام الصادرة عن نصوص “حمالة أوجه” تحتمل الكثير من المعاني، وذلك ضمن إطار القانون، الذي يخدم الجميع دون استثناء، حسب قوله.
عبادة الخوف
1- الترغيب والترهيب ومحاصرة الحياة: يرى “ناشيد” أن الخطاب الديني السائد تسبب في بناء علاقة الإنسان مع الله على الخوف دون الحب، بسبب المحاصرة المستمرة لخطاب الترهيب والوعيد والتخويف من الحياة وممارستها، كما تسبب في إفساد علاقتنا بالآخر عبر خطاب الكراهية والنفور ضد المختلف دينياً، حسب قوله.
2- ربط العلاقة مع الله بالحب والرحمة: يدعو “ناشيد” إلى تأسيس الخطاب الديني إلى ربط العلاقة مع الله بالحب دون الخوف، وعلى الرحمة دون العقاب، وعلى التسامح دون العنف، وربط الخطاب مع الآخر المختلف، وفقاً لقيم القبول والتسامح والحب، مع إعطاء الحياة بشكل عام قيمتها، الأمر الذي يتسبب في إلغاء عبادة الخوف، وإحلال عبادة الحب والرحمة بين الله والإنسان، وفق قوله.
الإسلام السياسي
مصير الإسلام السياسي هو الانهيار، وفق “ناشيد”، فقد ذهب إلى أن تيارات الإسلام السياسي هي السبب الرئيسي للإرهاب الذي يعانيه العالم الإسلامي، وتيارات الإسلام السياسي قد انحدرت فكرياً دون أي تطوير لمرجعها الفقهي، حسب قوله، وبُنيت على فتاوى العنف والتكفير، وبشكل عام فإن تيارات الإسلام السياسي مبنية على الشمولية الدينية الكاملة؛ فالدين هو الحل والحق والوطن والتاريخ، وفق “ناشيد”، الذي قال إن كل الأيديولوجيات الشمولية تنهار.
وختاماً، فإن إعمال العقل، ونبذ الجمود والتقليد، واستخدام التفكير الفلسفي، وزرع الحب والرحمة والتسامح ضد الخوف والبغض والعنف، ورفض الشمولية مطلقاً، بما فيها الشمولية الدينية.. ثلاثة محاور هامة في المشروع التجديدي والنهضوي للمفكر المغربي سعيد ناشيد، الذي رأى أن الفلسفة بمنهجها وفروعها قادرة على تشكيل مشروع تجديدي مبني على الوعي والعقل والحرية والحوار.
وقد ركَّز “ناشيد” في مشروعه النهضوي على إعادة الاهتمام بالعقيدة بعد أن أصبحت من “المسكوت عنه” في التراث الديني، وفق قوله، وذلك بعد أن أصبح التركيز على أحكام الشريعة والدوران في محيط النص، باستخدام القياس دون التفكير العقلي؛ الأمر الذي قتل الطموح والإبداع وأصاب الخطاب الديني بالتجمُّد، ما أفشل محاولات التجديد الديني، الذي لن يمكن إصلاحه إلا بواسطة إتاحة التفكير العقلي الحر، وتخليصه من الشوائب السابقة، حسب قوله.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.