المكاشفة العقلية بحثاً عن حداثة عربية
نقد مشروعات النهضة والحداثة العربية، الناشئة في القرن التاسع عشر، كانت فكرة منهجية رئيسية لتأسيس مشروع حداثي عند المفكر والفيلسوف الأردني زهير توفيق سليم الخليلي (1957م)، عضو الجمعية الفلسفية الأردنية، الذي يشغل منصباً أكاديمياً في قسم العلوم الإنسانية بجامعة فيلادلفيا الأردنية.
منهج "توفيق" النقدي أوصله إلى نتيجة مفادها فشل المشروعات الحداثية في الفكر العربي الحديث، الأمر الذي ألزمه دراسة أسباب هذا الفشل، التي وجد أن معظمها بسبب الأيديولوجيات المسيطرة على مفكري النهضة، سواء كانت أيديولوجيات مستمدة من الحضارة الغربية، أو مستمدة من التراث العربي المتمسكة بأصالته وبإعادة إحيائه، أو التي تحاول التوفيق بينه وبين الواقع المعاصر، لينتقل إلى إمكانية تحقيق المشروع النهضوي عبر طرح الإشكاليات السابقة، ومراعاة الخصوصية والهوية العربية، تجنباً لفرض الهيمنة الغربية على النهضة العربية المنتظرة.
وقد عبَّر "توفيق" عن مشروعه الفكري في عديد من المؤلفات، والكتب والرسائل العلمية والمقالات، منها كتبه: "أديب إسحق مثقف نهضوي"، و"خطاب العلم والتقدم"، و"المثقف والثقافة"، و"إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر"، و"النقد الفلسفي"، و"الفلسفة للمبتدئين"، و"النهضة المهدورة.. مراجعات نقدية في المشروع النهضوي العربي وبناه المعرفية".. وغيرها.
مشروعات النهضة
يرى "توفيق" أنه رغم جهود التنويريين والنهضويين العرب، فإن مشروع النهضة العربية قد "فشل" لأسباب منها: "تناقضات المشروع النهضوي العربي مع ذاته وتناقضاته مع الواقع الفعلي، واعتماده على الأمانيّ والرغبات دون الوقائع والحقائق"، حسب قوله.
من أهم أسباب فشل مشروع النهضة العربي، عند "توفيق"، اعتماد المفكرين والباحثين العرب الحريصين على النهضة العربية على نظرية المفكر الجزائري مالك بن نبي، الذي ذهب فيها إلى قابلية العالم العربي للاستعمار والاستسلام للقدر، حسب قوله.
وقد اعتمد مفكرو النهضة العرب على نظرية "بن نبي" عن القابلية للاستعمار، لكنهم تجاهلوا بقصد أو دون قصد، أطروحاته التي نادى فيها بتأسيس النهضة على الأركان الثلاثة "الإنسان، الأرض، الوقت"، ما أطلق عليه المفكر الجزائري "السلاح الثقافي المضاد"، حسب "توفيق".
الابتعاد عن "الكلية التاريخية" سبب آخر رئيسي لفشل مشروعات النهضة العربية، التي تجاهلت استخدام المنهج التاريخي في دراسة التراث وظواهره، ثم الانتقال إلى الواقع المعاصر ودراسته وفق ذلك المنهج، ودون ذلك تحولت الحداثة من قضية موضوعية إلى قضية ذاتية متعلقة بإثبات الوجود، حسب توفيق، ما حوّل خطاب النهضة إلى صراع هدفه الانتصار على الآخر، دون تفعيل قضية النهضة الحقيقية للوصول إلى الحداثة العربية، حسب قوله.
المكاشفة العقلية
لتجاوز ما سمّاه "فشل النهضة العربية"، يذهب "توفيق" إلى ضرورة مراعاة أن النهضة والتحديث لن يحدثا في فراغ عقلي أو معرفي، بل توجد معايير تبدأ من نقد التراث، ثم نقد الخطاب النهضوي نفسه، ثم الانتقال إلى عمومية نقد الخطاب العربي الثقافي والمعرفي والعقلي المعاصر نقداً كاملاً لتفكيك مقولاته، الأمر الذي يصل إلى حالة من المكاشفة العقلية التي قد تؤدي إلى تحقيق النهضة، حسب قوله.
وينتقد "توفيق" بعض مفكري النهضة العربية، الذين ربطوا بينها وبين إحياء التراث وإعادة الماضي، معتبرين ذلك طريقاً مباشراً نحو بناء المستقبل، الأمر الذي يرفضه ويرى أنه من معوقات النهضة، التي يجب أن تنطلق من الظروف والاحتياجات المعاصرة التي ربما لم يرد معظمها في التراث العربي القديم، حسب قوله.
الاهتمام بالخصوصية التاريخية، سواء للتراث أو للواقع الحالي، والنظر إلى كل حالة والتعامل معها وفق خصوصيتها الحادثة وقتها وفق المنهج التاريخي، سبيل لإحداث نهضة شاملة، حسب "توفيق"، لكنه يشدد على أهمية عدم الوقوع في براثن الاتجاه السلفي أو الاتجاه الليبرالي بمواقفهما المتناقضة من التراث والحداثة، وفق قوله.
ويستخدم "توفيق" المنهج التاريخي لفهم الظواهر التراثية والمشكلات المعرفية؛ إذ يرى أن هذا المنهج يوفر للباحث التعرُّف على مشكلات العلوم وفروعها، وتتبع المسارات والمناهج العلمية، ما يوفر قاعدة صُلبة لبدء النهضة العربية.
الإصلاح الفكري
يرى "توفيق" أن الحداثة العربية ومشروع النهضة يحتاجان إصلاحاً فكرياً ومعرفياً وعقلياً، ويجب أن يتجاوزا المفاهيم الأيديولوجية، تجنباً للمرجعيات المتناقضة، التي تؤدي إلى التناحر والتصارع، كما يجب وجود تسامح عقلي مع المنطلقات الفكرية والمبادئ الأولية لمشروع النهضة، كما يحتاجان إلى مشروع كُلي يحتاج إلى حل كلي، دون طرح مشكلات النهضة فردياً والتعامل معها بشكل فردي، حسب قوله.
وحتى تتحقق النهضة، فإن "توفيق" يرى أهمية طرح المناهج التحليلية العقلية التي يستخدمها دعاة ومفكرو النهضة، التي تعتمد على مقولات مثل "القياس والمماثلة والتجربة والخطأ"، ومغادرتها إلى تبني منهج علمي يستند إلى العلوم الحديثة وآلياتها، ومناهجها الحديثة التي توفر فهماً دقيقاً وتحليلاً صائباً واقعياً للإشكاليات المعرفية التي تواجهها النهضة العربية، وفق قوله.
ويضع "توفيق" شرطاً للاستعانة بالمناهج والعلوم الحديثة، يتمثل في التعامل الموضوعي مع الأطروحات النهضوية، ما يوفر قدرة وفاعلية على تحليل وتفكيك مشكلات ومعوقات النهضة العربية، حتى يمكن عزل التأثيرات التراثية والهيمنة الغربية، ويلغي سيطرتهما على المجتمع، حتى تحدث نهضة عربية إبداعية.
مفاهيم النهضة
يدعو "توفيق" إلى تحديد العناصر والمفاهيم التي تحقق التقدم والنهضة، لتوظيفها حضارياً، وبما أن هذه المفاهيم تتسم بالطرافة والحداثة، وأنها جديدة على المجتمع العربي، فإنه يدعو إلى ما سمّاه" تبْيئة المفاهيم"، أي ربط مفاهيم الحداثة بالبيئة والمجتمع العربي، حتى تصبح ناجعة ونافعة، حسب قوله، فيما ينبه إلى البعد عن التماثل الكامل مع الحضارة الغربية؛ بل يدعو إلى الإبداع في استخدام المقولات والمفاهيم الغربية بما يتفق مع الخصوصية والهوية العربية المغايرة للهوية الغربية، ويطالب بتعديل طرق تطبيق المفاهيم والمقولات المستمدة من الحضارة الغربية، بما يتوافق مع الواقع العربي، على أن يكون هذا التعديل في البنية المعرفية، حتى يمكن تفريغها من الأيديولوجيا الغربية لتتناسب مع العالم العربي، حسب قوله.
أيضاً، فإن القدرة على معرفة تأثير التراث في الواقع الحالي عنصر هام، عند "توفيق"، لإمكانية تطبيق الحداثة الفكرية، فيرى أن بعض التأثيرات التراثية في الواقع المعاصر تُخضع المجتمع لأصولية فكرية تزيد سيطرة الماضي التراثي على الفكر العربي، الأمر الذي يقف حائلاً ضد الحداثة العربية.
وضمن نقده التأثيرات التراثية، يرى "توفيق" أن صلاحية بعض العناصر التراثية في الماضي ومؤثراتها الإيجابية آنذاك، لا تعني صلاحيتها في العصر الحالي أو قدرتها على حل الإشكاليات المطروحة، كما أن محاولة استدعاء الماضي أو بعض عناصره ستؤدي إلى نتائج عكسية؛ بسبب أن هذه العناصر -وإن كانت ناجعة في الماضي- لن تُجدي نفعاً مع المؤثرات الجديدة والتحديات الراهنة المستجدة.
استئناف النهضة
يمكن استئناف مشروع النهضة والحداثة العربية وتطبيقه عملياً في العالم العربي، ولن يجري ذلك، وفقاً لـ"توفيق"، إلا عبر استخدام الأدوات المعرفية للحضارة الغربية، التي يجب إفراغها من المضمون الاستعماري الإمبريالي، حتى لا تقع النهضة العربية تحت سيطرة وهيمنة الحضارة الغربية.
ويدعو أيضاً إلى مقاومة داخلية ضد رافضي التقدم والحداثة، المتمسكين بالسلطوية المطلقة للتراث العربي، الراغبين في إحياء مقولاته التي انتهت بانتهاء عصرها، مشدداً على أهمية عدم الانطلاق من أيديولوجيات لتأسيس وتطبيق مشروع النهضة، حتى يكون المشروع موضوعياً مناسباً للواقع العربي، حسب قوله.
وختاماً، يتسم المشروع الفكري التجديدي للمفكر الأردني زهير توفيق، بالقلق من الفشل الذي أصاب بعض المشروعات النهضوية العربية، الأمر الذي جعله يبحث في مشروعات النهضة العربية منذ بداياتها تزامناً مع الاحتكاك بالحضارة الغربية، وهي الفترة التي يحددها زمنياً بمرحلة الحملة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر.
وبنقده مشروعات النهضة منذ ذلك الحين وحتى العصر الحالي، ذهب "توفيق" إلى معرفة معوقات وإشكاليات النهضة، حسب قوله، وحرص على تجنبها وتلافيها لتطبيق مشروع النهضة العربية والحداثة الفكرية.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.