المسلمون مختلفون حتى حول مفهوم "التراث الحي"
حول قضايا التراث وإشكالياته، يتحدث إلينا الدكتور زهير توفيق، الكاتب والأكاديمي الأردني والباحث في قضايا الفلسفة والفكر العربي، لافتاً إلى أننا ما زلنا أمام عقبة ليس لها حل واضح، وهي التي تتمثل في أزمة الحداثة والتراث: بأيهما نأخذ لنعيش حياتنا الآنية دون التخلي عن جذورنا تماماً؟ مشيراً إلى أن التراث (الديني والدنيوي) يشتمل على قيم فكرية وجمالية قابلة للتوظيف في حياتنا اليوم، وهو ما يُطلق عليه “التراث الحي”، وهو ما ننتقيه من التراث ككل، مؤكداً أنه حتى هذا المفهوم مختلف عليه بين المسلمين، فالسَّلفي يعتقد أن ابن تيمية والغزالي يمثلان “التراث الحي”، والليبرالي وتنويعاته يعتقد أن جابر بن حيان وابن رشد والمعتزلة يمثلون “التراث الحي”، فيما الجميع أمام اختبار التطبيق يفشل، حسب قوله.
وإلى نص الحوار:
من أهم إشكاليات الفكر العربي المعاصر هي ثنائية الحداثة والتراث، أو التراث والحداثة، فللترتيب معنى ضمني؛ فإذا وضعت الحداثة أولاً فأنت تعطيها أولوية على التراث، وإذا وضعت التراث أولاً فله الأولوية على الحداثة، ففي الحالة الأولى يكون المطلوب تطويع التراث لمقتضيات الحداثة وعصرها، والعكس في الحالة الثانية، يكون المطلوب تطويع الحداثة لتنسجم مع معطيات التراث، وقد اقتضى الخلاف بين ما هو تراثي وما هو حداثي أو عصري وصفات توفيق بينهما اختلقها المفكرون والفلاسفة، لكنها للأسف فشلت وتحولت إلى “تلفيق” ليس له منهج؛ فالتراث بالتأكيد يشتمل على قيم فكرية وجمالية قابلة للتوظيف في حياتنا اليوم، وهو ما يُطلق عليه “التراث الحي”، لكن حتى هذا المفهوم مختلف عليه؛ فالسلفي يعتقد أن ابن تيمية والغزالي يمثلان “التراث الحي”، والليبرالي وتنويعاته يعتقد أن جابر بن حيان وابن رشد والمعتزلة يمثلون “التراث الحي”، فيما الجميع أمام اختبار التطبيق يفشل.
يبدو لي أن التعقيد في مسألة التراث العربي هو ارتباطه بالإسلام، فالأساس في التراث هو التراث الديني، والمسكوت عنه أو الموقف الضمني السلبي اليوم من التراث هو موقف من الإسلام، وبالطبع ليست هذه دعوة للتخلص من الإسلام من أجل تنقية تراث مأزوم، فلا يزال الإسلام ديناً وثقافة ومرجعية حكم وأداة تنظيم في حياة العرب فرداً وجماعات ومجتمعات ودولاً، ولحل هذه الإشكالية الناجمة عن اقتران التراث بالدين وتسهيل النظر إليها طرح المفكر العربي فهمي جدعان استثناء الدين من التراث؛ أي التعامل مع المعطيات الدنيوية التي اقترحها القدماء، لكن رد عليه كثير من المفكرين وربطوا التراث بالدين.. إذاً فالموضوع شائك ولم نصل فيه بعدُ إلى حل.
استنتجت (أنا وغيري) من قراءاتي السابقة أن القراءات والاتجاهات الدراسية للموضوع وصلت إلى طريق مسدود، مما أدى بالاتجاهات النقدية المعاصرة إلى اعتبار الثنائية الضدية (الحداثة والتراث) إشكالية زائفة لا تستحق هذا الجهد والنظر، وأعتقد أن هذا هروب إلى الأمام بدلاً من تأسيس الإشكالية على أسئلة ومعطيات جديدة، والتخلي عن الأيديولوجيا التي تستهدف الغلبة وليس الحقيقة، لأنها جهد تشارُكي يتطلب من كل التيارات مقاربة الموضوع بشروط الواقع وليس الأيديولوجيا.
بقيت نقطة مهمة وجب توضيحها، وهي أن أي إشكالية في الواقع تمتلك ديناميكيتها الذاتية للوصول إلى حل موضوعي وتوازن تلقائي فعال، بغض النظر عن النزعة الإرادية والتنظير المجرد.
كان الحل المغاير لسيطرة التراث أو الأخذ بالحداثة، وهو محاولات صنع طريق ثالث توافقي بين التراث والحداثة، مطروحاً منذ زمن بعيد، لكنه لم ينجح كما أشرت، وبالتالي نحن في حاجة إلى موقف رابع يتجاوز الحلول والتيارات السابقة، وهذا ما سيكون عليه المستقبل بغض النظر عن الإرادة الذاتية والتنظير.. فالإصلاح والتجديد والاجتهاد مفاهيم قائمة، والسؤال لا يتعلق بكيفية الاستفادة، بل بمدى القابلية والتطابق مع العصر وضرورة إنتاج فهم عصري للتراث والإسلام؛ فالدين موضوع مثير للفلسفة، وقد اقتربت العلوم الشرعية كثيراً من الفلسفة والمنطق، وقد أثر الإسلام نفسه في الفلسفة، وفي لحظة ما دخلت الفلسفة بالمشرق في علم الكلام، وصار علم الكلام الفلسفي موجوداً، خصوصاً بعد الغزالي.
أما الانتقاء والوسطية واستخلاص الأنسب للواقع والعصر فهو مطلوب وقابل للتداول والتطبيق؛ فباستثناء معطيات الوحي والعقيدة كل شيء قابل للاجتهاد، والرهان على المجتهدين الجدد لأن يكونوا بالكفاءة والسمو والنظرة الثاقبة لأسلافهم.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
لقاءات خاصة
عامر الحافي: بعض المذاهب الإسلامية لم تشتهر رغم أنها أصوب من الرائج (الجزء الأول)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.